الحلبوني.. معرضٌ لكتب الاغتراب
إذا ما نزل المرء درج «جسر الرئيس» وسط العاصمة دمشق، وعبر الطريق المرصوف خلف المتحف الوطني سيصل إلى حي المكتبات، الحلبوني، وإن كان من أولئك الذين أمضوا ساعاتٍ من التسكع في أروقة المدينة مشياً على الأقدام -حينما كان «التشرد» في حارات وشوارع المدنية ما يزال مغامرة اختيارية- ربما يروي لك بعض الحكايات عن تلك اللقى الثمينة من الكتب التي اشتراها عن الرصيف بأسعارٍ بخسة، أو يتفاخر بطبعة نادرةٍ لديوان أحد الشعراء.
وحينما ينتهي الشارع المرصوف بالكتب، تبدأ أبنية المحلات والمكتاب الضخمة ودور النشر. الضياع في أروقة المكتبات هناك تيهٌ من نوعٍ آخر؛ إذ تظن مثلاً أنك دخلت مكتبةً صغيرةً ضيقة لتكتشف فيما بعد سراديب تحت الأرض أو أدراجاً تصعدها وصولاً إلى خزائن ومكتباتٍ أخرى، تستطيع تمييز قدم المكتبة من رائحة الورق والرطوبة وطبقات الغبار على الرفوف، وربما يشكو لك البائع بينما يبحث لك عن عنوانٍ محدد أرباب عمله ويخبرك أن قراءة الكتب أكثر متعةً من بيعها..
لكن حال الحلبوني تغير كحال المدينة والبلاد، هو تغيّرٌ تدريجي بطيء، كما لو أن أحداً ما سرق كتاباً تلو الآخر من تلك المكتبة الرمزيةٍ، ليستيقظ أصحابها يوماً فترعبهم صورة الرفوف الخاوية! استبدلت قصص الأطفال - حسنة الطباعة والرسم المتميزة بخيالٍ حرٍ خلّاق- بكتيبات (أرسم ولوّن) التي تكاد تخلو من أية كلمات، وطغت أدوات القرطاسية ومستلزمات المكاتب على الكتب، فيما استمرت بعض المكتبات العريقة تصارع لتحافظ على مكانها في شارعٍ مزدحم ضاق عليها.. لم يكن المرء يحتاج أن يكون دقيق الملاحظة حتى ينتبه كيف بدأت أعداد الكتب الدينية تزاد بإطراد حتى احتلت معظم الواجهات الزجاجية، كتب مجلّدةٌ مزخرفة من جميع الألوان والأحجام، تفسيراتٌ وشروحٌ وكتبٌ مقدسة امتدت على معظم المكان فيما بقي هامشٌ صغير لمجالات المعرفةٍ الأخرى من تاريخ ونقد وعلوم. كما لو أن شؤون الدين وحدها هي التي تستحق تعمقاً ومعرفةً فيما تبقى معارف الدنيا الأخرى مجهولةً عصية على الفهم.
مؤخراً تعرضت الحلبوني لزحف من نوعٍ جديد: كتب الطاقة الإيجابية وتطوير الذات، إذا ما ذهبت إلى هناك بحثاً عن كتابٍ محدد ربما تبوء محاولاتك بالفشل، إلا أنك في المقابل ستتعرف على «365 طريقة لتطوير حياتك» وستتعلم «كيف تجذب الناس كالمغناطيس» بما لا يزيد عن 200 صفحة! و تتقن «لغات الحب الخمس» وتستشعر «جبلنا الجليدي يذوب» و«تتحدث كالرابحين» وتودّع الأرق في «لا نوم قليل بعد الآن». سوف لن تصدق أن مكتبة «جرير» في المملكة العربية السعودية تقدم لك إجابات عن جميع المسائل العالقة حينما تخبرك أن «الحل يكمن في داخلك»! وتجعل منك غنياً ومحبوباً وناجحاً بـ«أسعار رمزية».