«لو سمحت.. من فضلك.. يا معالي الوزير!»
يجلس المواطن اليوم أمام مواقع التواصل الاجتماعي ليقول ما يريد، وينتقد من يريد، ويمدح من يريد، بالكلمة والصورة أحياناً، في إطار قد يصفه البعض باللا مسؤول أو اللا واعي، لكنه يعمل الآن على إيصال الكلمة بقوتها وقسوتها وبكل ما تحمله من انتقاد، متجرداً من الخوف والتردد والحياء في بعض الأحيان
فنرى اليوم صفحات تحاول يومياً ملاحقة أخبار الفساد والمفسدين في كل المجالات، بعد أن ضاقوا ذرعاً بعجز القنوات الإعلامية التقليدية عن وضع حد للقفزات الخيالية التي تمارسها تلك القوى فوق القانون والعرف المؤسساتي وتسليط الضوء على تجاوزاتها، والابتعاد عن محاباة أصحابها.
يؤثر الإعلام عموماً على الأفراد من خلال قدرته على مخاطبة جماهير عريضة في وقت واحد، بما يمكن من التوجيه الجماعي نحو هدف، أو قضية معينة، واستنهاض الرأي العام لعمل ما، سلباً أو إيجاباً، كما أن وسائل الإعلام تعتبر من المصادر الأساسية –بل الوحيدة في بعض الأحيان- للمعلومة عند الجميع، والتي يبني عليها الأفراد مواقفهم بل يمتد أحياناً إلى القيم وأنماط السلوك، فقد يحدث أن يتقبل المجتمع قيماً كانت مرفوضة قبل أن تحملها الرسالة الإعلامية، أو يرفض قيماً كانت سائدة ومقبولة مستبدلاً بها قيماً جديدة، ويتشعب دور تلك الوسائل بين الاجتماعي والتوعوي، والنقدي، والتحليلي التنويري، والخبري المعلوماتي، والإنساني الذي يتعاطى مع الجوانب العاطفية والوجدانية...الخ.
يبقى كل ذلك في النهاية بعيداً كل البعد عن الأسلوب الذي عملت وتعمل به بعض وسائل الإعلام المحلية الرسمية في إطار نقد الأداء الحكومي على وجه الخصوص، والذي يقصر جهدهم اليومي في محاربة الفساد والإضاءة على مفاصله على نشر الشكاوى في إطار «برسم مدير كذا..» أو «هل يجوز ذلك يا معالي..».. الخ.
والمشكلة أكبر مما يحاول البعض اختصاره بعدم وجود متابعة فعالة لما يطرح على الأقل أو حتى محاولة الاستفادة من الخوف الذي يعيشه الفاسدون، وهي ترتبط بالدور الحقيقي للإعلام وما يمثله، والكفيل برفع الإعلامي إلى مرتبة القاضي المتحرر من أي عبء، إن عزوف الإعلام عن أداء الأدوار المنوطة به له تفسيرات مختلفة، ولكن يبقى أهمها هو فساد تلك الوسائل الإعلامية أيضاً، وحرصها على ديمومة الاختلالات لاستغلالها في أعمال الابتزاز، وبالتالي يصبح وجود تلك الأدوات الإعلامية من عدمها سيان، لأنها لا تضيف لما يُقال في الشارع شيئاً.
ويظهر هنا وجه آخر من هذه المعضلة المتمثل بارتباط بعض وسائل الإعلام برموز الفساد، وتغطيتها لنشاطاتهم السوداء وتوفير ما يلزمها من أدوات. وفي هذا الإطار يغدو الفساد نمط حياة مستقراً وعلاقة اجتماعية عامة، بل وآلية من آليات توزيع الدخل، وبالتالي يحتاج إلى التزود بثقافة تبرره.
وتعمل تلك القنوات الإعلامية المدعومة بنفوذ مادي وإداري غير محدود بخبث على التركيز على بعض مظاهر الفساد «الصغير» لجموع الفقراء، الذين لا يكفيهم راتبهم في ظل نظام اقتصادي-اجتماعي محاب لمالكي الثروات، مختزلة محاربة الفساد بهؤلاء.
بالمقابل تغض الطرف عن صفقات الفساد «الكبير» فتكون النتيجة أن يضع «واصلون» أيديهم على موارد عامة بالمليارات، أو قد يظفر أصحابهم بمعاملة خاصة في تعاقدات الدولة، أو حتى أن تسن قوانين «مفصلة» على قياسهم ولا يعلم بصدورها أحد غيرهم، بينما يجري «تهليل» إعلامي لمثل تلك التجاوزات، ترافقه حملات «تخوينية» لكل من تسوغ له نفسه الإشارة إلى تلك الممارسات في «هذه الأوقات العصيبة على البلاد» واتهامه بالتبعات الكارثية التي يحملها هذا النهج على حياة جموع المواطنين، متجاهلين الحقائق والوقائع التي جعلت من رموز الفساد الاقتصادي والإداري جسوراً للتدخل الإمبريالي في السيادة الوطنية بعد أن فتح الأبواب للأجنبي.
على كل حال تبدو تلك الوسائل «الافتراضية» عاجزة حتى الآن على إحداث أي تغيير إعلامي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ضمان مصداقيتها المطلقة أو التعويل عليها وحدها في مواجهة حيتان الفاسدين وماكينتهم الإعلامية، لكنها تعكس حالة شعبية صادقة تستحق التمعن، وتدق مسماراً جديداً في نعش الإعلام الرسمي الكلاسيكي الغائب - أو المغيّب- عن هموم الجماهير.