تحيز إعلامي
الإعلام يخدّم السياسة ويسوّق التوجهات والأجندات القائمة لدى الجهة المالكة أو المموِّلة، كونه بالأساس يحتاج التمويل لتغطية نشاطاته، أما مفاهيم «الحيادية» و«الاستقلالية» في الإعلام التي تم تسويقها طويلاً فهي للتعمية عن الرابط الوثيق بين الوسيلة الإعلامية والتوجه السياسي المموّل،
بحيث أصبحت العديد من المنابر الإعلامية حديثة العهد أو المخضرمة غير قادرة على إخفاء ذاك الرابط عن جماهيرها، فبرنامجها الإعلامي اليومي يشير إلى انتمائها للاشك أنه كان مفيداً ولو نسبياً توافر مجموعة من القنوات البصرية أو السمعية التي تعتمد منهج فتح المجال لشرح وجهات النظر ونشر جديد الأفكار في إطار إعلام ذي مجال واسع من المرونة في الطرح يضمن درجة أعلى من «حرية التعبير» وطرح الآراء دون كبت مباشر لذلك الحق المشروع، لكن مع دون التوجس من كبته عند ضرورات «المصلحة». غير أن منعطفات الحراك الشعبي في بلدان المنطقة والتي فرضت معادلة تعلم وفرز شديدين وسريعين يحدثان في داخل الوعي الجمعي الشعبي، جعل من المستحيل على وسائل الإعلام تلك الاستمرار في المرونة السابقة، فكان مفاجئاً تحولها إلى إعلام حرب يعمل بشكل واضح ومباشر على تظهير الصراعات الثانوية وتأجيج أقصى حالات التطرف فيها، فشهد الناس كيف باتت وسائل الإعلام «الحيادية والموضوعية» ذاتها تحمّل كلماتها بالحقد والتشدد وتزيد الشرخ بين أبناء المجتمع الواحد وتلقي الضوء بخبث على الشواذ على أنه القاعدة، في إطار جبهة إعلامية ممنهجة تخدم مصالح محددة مرتبطة بالخارج غالباً، وتنخر في أساسات مجتمعات المنطقة التي عاشت وما تزال تعيش أياماً فائقة الحساسية من شأنها أن ترسم ملامح نظمها لعقود قادمة.
ومع ظهور أنماط إعلام جديدة تندرج فيما با يعرف بالإعلام البديل، قد يظهر هذا الفرز العميق لاحقاً أنه يمكن لوسائل الإعلام، التقليدية والجديدة، أن تمثّل مصالح شرائح اجتماعية واسعة، وتتعامل مع السياسة من موقع الند، إذ لايمكن إنكار علاقة الإعلام بالسياسة، خاصة عندما تتبنى وتتحيّز لمصلحة الشرائح الأوسع من الناس. واليوم تخوض وسائل الإعلام هذه، على قلتها وانخفاض حجم تمويلها، حرباً غير عادلة مع وسائل إعلام استطاعت حجز مكان لها على شاشات المتابعين عبر تمويل ضخم ومستمر على مدى سنوات لتؤدي اليوم دورها كاملاً في اللعب على الفوالق الطائفية والعشائرية أو عن طريق تبني أحد الفرقاء في الوطن/ الأوطان ثم إقصاء الآخر وتشويه مقاله، ولتصبح السند الإعلامي لقوى التشدد والفساد في سعيها المحموم لإطالة عمر الأزمات والتربح من حالة اللااستقرار التي أنهكت المواطن/ين وأعاقت كل الجهود لإعادة عرى التفاهم والسلم الداخلي.
ولم يتوقف الأمر على هذا الحد، بل ذهب إلى تحول تلك القنوات لتصير الذراع الأطول في تعزيز حالة عدم الاستقرار تلك، عبر التحريض الوقح ورفع مستويات الشحن بين التلاوين الاجتماعية، وعملت على استخدام التقنيات الإعلامية الرقمية لخلق حالة مغايرة عن الواقع تماماً وتخديم وجهة نظرها فقط، كما تعمدت خطاباً متحيزاً مملوءاً بالألغام اللفظية والمقارنات السطحية ساهم في نقل المشاهد إلى مواقع أخرى، وصلت حدود إباحة المحرمات من القتل والنهب والفرقة المذهبية والهدم الممنهج لمؤسسات الدولة وحتى التطبيع مع العدو، كما نرى يومياً تحت مسميات وشعارات تحاول أن تلمع تلك الصورة المشوهة.
الكلمة أشد وقعاً من فعل الرصاصة، ولهذا تتحمل تلك القنوات الإعلامية المسؤولية كغيرها من الأطراف في إطالة أمد الصراع ورفع منسوب دمويته، في مسؤولية ينبغي أن تقف بسببها أمام المحاكم لإخلالها ببنية مجتمعات الحراك العربي القائم. وما الدعوات الحالية لإغلاق مكاتب بعض من تلك القنوات في أكثر من مكان، ومحاسبة القائمين عليها سوى البداية التي ستكشف زيف ادعاءاتها بأنها إعلام جاد ومحايد وصادق وموضوعي، وتفضح أجندتها السوداء، عندها سيكتشف المتابعون خطورة هذه المنابر، ويرمون خطابها المقيت بعيداً بعد أن تحاكم- كما ينبغي- فكرياً وقانونياً في جرائم ضد البشرية..
خط سياسي أو اجتماعي تتحدث باسمه وتدافع عن مواقفه.