سجوننا لا تسع قامتك يا تولستوي
في البداية عليّ الاعتراف أنني لم أكتشف الجانب الفكري الفلسفي في شخصية ليف تولستوي إلا متأخراً، لكن من الإنصاف القول ما إن يدرك المرء قيمة هذا الفكر حتى يتحول غالباً إلى مبشر به، ففي قراءة فكر تولستوي الفلسفي شفاء للكثير من عذابات البشر
، وفكره الفلسفي يندرج في مجمل إنتاجه في مراحله المتعددة مما يجعل استيضاحه عسيراً للغاية وتولستوي من فئة الأبدال، كأخيه نزيل معرة النعمان في إدلب، فهؤلاء يظهرون في حقبة يغمرها مناخ حضارة مثقفة. ويتمتعون، بفضل التعمق في قضايا الفكر والإنسان والوجود، بدرجة من الوعي الكوني تدمجهم في ضمير العالم. وبذلك ينجحون في إنشاء سلطتهم الخاصة التي يوظفونها لنصرة الخلق.
في عام 1884 كتب تولستوي لدار نشر الوسيط مجموعة حكايات تحمل عنوان: «قصص شعبية». اقترن فيها فضحه للاضطهاد والقهر مع دعوته للتسامح والحب الأخوي والابتعاد عن الشر الذي يكدر عيش البشر. ولم يصدق أهل الثقافة الارستقراطية أن هذه القصص مكتوبة بيد مبدع روايات الحرب والسلم وآنا كارينا والبعث. والظاهر أنها جرحت مشاعرهم المرهفة بعمق مضمونها وتسفيهها لأخلاقهم وطريقة عيشهم. وقد تعرضت قصصه الشعبية لملاحقة سلطات الرقابة القيصرية مثل قصته نيكولاي بالكين، وهي عبارة عن أهجية حادة يتعرض فيها لشخصية القيصر نيكولاي الأول، الذي كان من أشد الطغاة الذين يكرههم تولستوي. وقد قام الطالب «ميخائيل نوفوسلوف» من جامعة موسكو بطبع هذه القصة على آلة الطباعة دون إذن مسبق من تولستوي، واعتقل الطالب لهذا السبب. وعندما علم تولستوي بذلك، توجه إلى إدارة الشرطة القيصرية وطالبهم بالإفراج عن الطالب وحبسه هو. وأعلن أن المسؤولية تقع عليه لأنه كاتب هذه القصة. وبعد أن استمع جنرال الشرطة إلى تولستوي قال: يا ليف تولستوي إن مكانتك عظيمة وكبيرة بحيث لا تتسع سجوننا لها.
أساء كبار الأدباء الروس فهم أفكار وفلسفة تولستوي، وكذلك فعل أهل بيته، زوجته وأولاده. ففي آخر سنوات عمره، كان «إيفان تورغينيف» قلقاً للتغيرات الحادة في حياة وأدب تولستوي. وكتب إليه يقول: «العزيز ليف تولستوي، أكتب لك بشكل خاص، كم أنا سعيد كوني من معاصريك، حتى أعبر لك عن رجائي الأخير والحقيقي، عُد يا صديقي إلى النشاط الأدبي، أيها الصديق والكاتب العظيم للأرض الروسية، لبّ رجائي». وقد خاف «تورغينيف» أن يقتل ولع تولستوي بالفلسفة والنضال الاجتماعي جذوة الإبداع الأدبي في نفسه. وقد أرعبه كتاب تولستوي (الاعتراف) بأجزائه الثلاثة (اعترافي، ديانتي، إنجيلي) ولم تسمح الرقابة القيصرية بطبعه في روسيا، لذلك طبع في جنيف. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى العربية تحت عنوان اعتراف تولستوي وفلسفته عام 1929بقلم الأرشمنديت «انطونيوس بشير» صاحب مجلة الخالدات في أمريكا الشمالية. وطبع في مصر عام 1930 بعناية الشيخ «يوسف توما البستاني» صاحب مكتبة العرب.
المفاجأة التي أذهلتني ودفعتني للبحث في تفاصيل حياة هذا الأديب الكبير أن مفتي الديار المصرية، تلك الأيام، العلامة الشيخ محمد عبده (1849 - 1905) وعلى الرغم من بعد المسافة الجغرافية بينه وبين تولستوي، لكنه استطاع بفطنته واتساع أفقه المعرفي واتصاله المتين بثقافة عصره إدراك المفاصل الأساسية في فلسفة تولستوي. وقد كتب رسالة إلى تولستوي موجودة في متحفه في موسكو، وبجانبها ترجمة إنكليزية لنص الرسالة العربية مؤرخة في الثاني من شهر نيسان عام 1904 يقول فيها:
«أيها الحكيم تولستوي لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نُحرم التعارف مع روحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك، ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك. فكما كنت بقولك هادياً للعقول، كنت بعملك حاثاً للعزائم والهمم، وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي بها الضالون، كانت مثالك في العمل إماماً يقتدي به المسترشدون، وكما كان وجودك توبيخاً من الله للأغنياء كان مداداً من عنايته للضعفاء الفقراء».