ياسين رفاعية: قالوا لي الواقع شوّه الرواية
«سوريو جسر الكولا»، عنوان الرواية الأخيرة لياسين رفاعية الصادرة حديثا عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر»، فعبر السّير المختلفة لبعض العمال السوريين في لبنان، يدخل الكاتب إلى تصوير معاناتهم، الاضطهاد الذين يتعرضون له، العنصرية التي يلاقونها، ومع ذلك تمضي الأحلام من دون أن تتحقق سوى.. بالموت. صور عن علاقات إنسانية لم تختف، وإن تغيرت بسبب الكثير من الأحداث، وبخاصة بعد استشهاد رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.
حول الرواية هذا اللقاء.
تختار موضوعا شائكا في روايتك الأخيرة، فانطلاقا من سير عمال مياومين سوريين، تدخل إلى قضية تشغل لبنان وسوريا والعلاقات بينهما. ما الذي دفعك إلى اختيار هذا الموضوع وفي هذه اللحظة بالذات؟
شغل بالي هذا الموضوع منذ فترة طويلة، وكنت دائما على تماس مع عمّال أعرفهم شخصياً. ساعدت أيضا عددا منهم للعودة إلى بلادهم، ناهيك عن ذهابي الدائم للسهر مع مجموعة منهم، في غرفة واحدة استأجروها، لأستمع إلى مشكلاتهم وشعورهم بأنهم طبقة دونية جدا، ولا يحق لهم الاحتفاء بالحياة ومباهجها. همّهم الحصول على الأجر اليومي الذي يصل عند البعض إلى 10 دولارات، وهو مبلغ كبير بالنسبة إلى عامل قادم من سوريا.
كانت حياتهم تعيسة جدا، ولم ينتبه إلى هذه الطبقة لا دارس اجتماع ولا كاتب ولا صحافي. طبقة تعيش معاناتها اليومية والخوف من فقدان العمل. عمال يتلاصقون في غرفة واحدة، برغم أن معظمهم لا يعرف بعضهم بعضاً، لكن المأساة وحدتهم في البحث عن العمل. إلى ذلك، لهم أحاسيسهم، فهم قدموا إلى مدينة بهذه السعة، مع أن معظمهم جاء من قرى متباعدة حول إدلب وحمص وحماه. لم يعيشوا سابقا في مدينة كبيرة مثل بيروت، فكانوا مندهشين دائما لوجودهم هنا. كبرت أحلامهم، أحلام الثراء والزواج والحب والأولاد، لكنها كلها مجرد أحلام بائسة لا تتحقق أبدا، وكانوا يعرفون ذلك. رغبت في هذه الرواية في أن أقدم هذه الشريحة المنبوذة، ليس في لبنان وحسب، حيث يعاملون بعنصرية بخاصة بعد استشهاد الحريري، بل في بلدهم أيضا. هل تعلم بأن 700 عامل فقدوا بعد هذه الحادثة ولم يعد أحد يعرف عنهم شيئاً. لا دولتهم سألت عنهم، ولا الحكومة اللبنانية حققت في مصيرهم. حياتهم تعيسة وكئيبة، وهم يضحكون على أنفسهم متسائلين لماذا نعيش؟ لماذا نحن هنا؟ وهم يتعرضون للاهانة والسرقة والقتل. ما رويته من مشاهد في هذه الرواية واقعية وحقيقية.
مواقف إنسانية
صحيح أنهم يتعرضون للاضطهاد، لكنك لا تتوقف عن التذكير، على مر الرواية، بأن دولتهم تخلت عنهم أيضا؟
هذه الطبقة من العمال مضطهدة في وطنها أكثر مما هي مضطهدة في لبنان. هناك 25 في المئة من السكان عاطلون عن العمل، ويجد الشباب هناك أن لبنان أقرب موقع لهم للعمل برغم التعب والعذاب، إذ يمارسون أعمالا يتعالى عنها العامل اللبناني ويخجل منها.
كيف تفسر إذاً تردي هذه العلاقة بين الفريقين؟
المسؤول الأول دولتهم، مع أنهم متاح لهم الخروج ببطاقة الهوية. هناك اتحاد نقابات العمل في سوريا، لكن هؤلاء العمال لا يملكون مهنا محددة، وهذا ما جعل الاتحاد لا يعترف بهم، لأن معظمهم طلاب شباب وصغار في السن وفي حاجة إلى المال، وإذا كنت تذكر مرت عشر سنوات لم يهطل فيها المطر في سوريا، وهذا دفعهم إلى ترك قراهم والعمل في لبنان. وما إن يحصل العامل على أجره حتى يكتفي بسندويش فلافل وبجمع مبلغاً من المال لا يتعدى 300 دولار ليعود إلى بلده، معتبرا أنه حصل على ثروة كبيرة، وغالبا ما يعتدى عليه وتتم سرقته وسرقة أوراقه الثبوتية.
ذاهبون إلى الموت
تنتهي غالبية مصائر الشخصيات بالموت، لماذا اخترت هذه النهاية الحتمية، من دون بصيص ولو أمل صغير؟
لو أخذ أي إنسان غيري قرارا بمعرفة هؤلاء فسيكتشف ما اكتشفته ويتعاطف معهم، ولا بدّ من أن أشير لك إلى دوافع إنسانية لبعض اللبنانيين الذين حموا العمال ودافعوا عنهم، وبخاصة خالد، البطل الرئيسي، قُتل أخوه العامل حسن، لكن صاحب البناية، البيك، ساعده جدا على توفير كل الوسائل القانونية لنقل أخيه إلى سوريا. حتى العروس، لم تكن تقيم له في البداية أي قيمة، لكن مع مرور الوقت، وحين اكتشفت انه يحبها بدون أمل، تعاطفت معه من دون أن تشجعه، ودعته إلى عرسها ليحملها على كتفيه. هذه قصة حقيقية، ابعدت عنها كل نوع من الدنس، كأنها ابنته أو أخته. هناك الكثير من المواقف المشابهة. لكنها مواقف إنسانية.
لكن لِمَ ماتوا في غالبيتهم؟
إنه الحل الوحيد الممكن. الأمل الوحيد كان الطفل قبل أن ترميه أمه من نافذة الباص، وعندما سألوه عن اسمه قال «سوريا». ما قصدته أن جراح سوريا أصبحت كبيرة جدا، من هنا، هل يستطيع هذا الطفل الوقوف مجددا؟ وما علامة الاستفهام التي تركتها في النهاية إلا كي يتخيل القارئ مستقبل سوريا. ربما قتلتُهم لأنها الطريقة الوحيدة الممكنة. ثمة حرب في سوريا وكانوا عائدين إليها، أي أنهم ذاهبون إلى الموت. اصطحبوا أحلامهم ظنا منهم أنهم ذاهبون إلى بيوتهم، لكن القدر تدخل ورماهم إلى الوادي قتلى متناثري الجثث.
هل تريد القول إنها شخصيات استسلمت لشرطها الإنساني، هل غادرت الحلم؟
إنها مكسورة الأحلام. أحلام كبيرة لا يستطيعون تحقيقها ولا حتى مصافحة البنت التي يحبها أحدهم. حصلت شجارات كثيرة بسبب كلمة لفتاة عابرة فقادتهم الشرطة إلى السجن. لا يجرؤ العامل على النظر إلى فتاة جميلة. من نحن؟ تصيح إحدى الشخصيات، وتجيب: نحن زبالة مجتمعنا، زبالة هذا العالم، لا نجرؤ على أن نقول كلمة حب حتى لسيريلانكية.
ثمة سؤال لا بدّ من أن يطرح: هل كتبت رواية أم هو توثيق لهذه الحالة الموجودة؟
إنها رواية بالمعنى الكامل لكتابة الرواية، وإن قسّمت إلى فصول تعددت الشخصيات فيها، لكن هذه الشخصيات مترابطة طبقيا واجتماعيا وحتى ثقافيا. إنها رواية فجائع، النماذج التي اخترتها فجائع، لم يكن لدى أي عامل ولو بصيص أمل في حياة أفضل. قبلوا هذا الوضع ولا يستطيعون تغييره. أحد الأصدقاء قال لي: «الواقع شوّه العمل الروائي، لأن الواقع ليس صالحا دائما لكتابة الرواية». قلت له: «يجوز، لكن لو أعدت النظر في هذه الرواية لوجدت الواقع هو البطل الخفي لها».