الفنان التشكيلي نذير إسماعيل لـ«قاسيون»: «الفنان شاهد على الزمن الذي يعيش فيه»
الناس البسطاء حتى وإن كانوا غير مثقفين قادرون على التواصل والشعور بالإرث الذي يحملونه في جيناتهم لثقافة مارسوها وهي مغروسة فيهم منذ آلاف السنين.
ما الذي تقوله بداية عن تجربتك الفنية؟
أحد أهم مصادري هو الفن الشعبي وهو الفن الذي ينتجه أي إنسان يريد أن يزين حياته ويستخدم أبسط المواد التي بين يديه كالقش أو الصوف..الخ ليعكس ثقافته أو رأياً ما في الحياة من خلال مواد بسيطة، أما المصدر الثاني فهو الفن الذي أنتج على مر العصور سواء في بلادنا أو خارجها وأرخ لفترات من حياة الناس والبشرية وفهمها للثقافة والجمال.
الدراسة مهمة جداً لأي فنان، لأنها تزوده بثقافة فنية، من خلال التفرغ لعدة سنوات، والعمل تحت إشراف مختصين، ومشاركة أصدقائه، فيخلق وينتج ويتعلم ويعلم الآخرين.
كل إنسان له ظروفه، من يدرس لغة، على سبيل المثال، لا يصبح أديباً، دراسته تساعده إذا كان فعلاً كذلك. والأفضل تغطية هذه الجوانب بالدراسة، ولكن يبقى الأساس هو الإنسان وما يريده، فالكلية عمرها حوالي 50 عاماً وخرّجت آلاف الفنانين ولكن في النهاية الذين أنتجوا فناً من هذه الآلاف عدد محدود جداً.
هل هذا مرتبط بتوافر الموهبة أم هناك أسباب أخرى؟
الأسباب كثيرة، جزء منها الموهبة والرغبة بإنتاج الفن وتكريس الوقت لذلك. الدراسة وحدها لا تصنع فناناً، الفن ليس هواية والإنسان لا يصير فناناً في أوقات الفراغ فقط، يجب أن تكرس له وقتك.. وقد يكون خياراً صعباً ولكنه خيار في نهاية المطاف، ولا أفهم كيف يخطط البعض ليصبح رساماً مثلاً بعد أن تتحسن ظروفه..!.
هناك عوامل تؤثر في رغبات الإنسان يكتشفها لاحقاً.
من ذكريات طفولتي أنني كنت أمر في طريقي بورشة للبسط اليدوية وأجمع بقايا خيوط الصوف الملونة، وأضعها في كأس ماء وأراقب بسرور انحلال الألوان في الماء، وكنت أيضاً أمر بدكان قريب من بيت جدي في باب الجابية وأتأمله كيف يرسم، عرفت لاحقاً أنه من أهم الفنانين الشعبيين واسمه أبو صبحي التيناوي.
لاحقاً، في أيام المدرسة الابتدائية، كنت أمر ببيت نوافذه الكبيرة مفتوحة، اختلس النظر إلى لوحاته المعلقة على الجدران، وعرفت فيما بعد أنه كان منزل الفنان خالد معاذ، أحد الفنانين المعروفين في سورية. استهواني ذلك دون أن أعرف له سبباً، لاحقاً عرفت!.
عشت طفولتي في حي الميدان الدمشقي في بيت يطل على الغوطة وبساتينها التي كانت تبدأ على بعد 50 مترا فقط من منزلي، أصبحت الآن منطقة الزاهرة. والصور التي حملتها ذاكرتي البصرية انعكست في اهتمامي وبدأت البحث والقراءة والرؤية، تطلعاً للمعرفة أكثر.
طبق القش الذي تصنعه بعض الأمهات هو نوع من الفن والثقافة التي قد لا تكون موصفة ولكنها تفعل فعلها في حياتنا. لا يهمني الفن المحنط. فالمتحف شيء والحياة شيء آخر.
أذكر في أول مرة زرت فيها باريس دعاني أحد الأصدقاء إلى خارج المدينة، ونحن في القطار سألته: أليس هذا هو حقل تجارب القطار السريع (ولم أكن قد زرت المنطقة سابقاً ولا أعرفها) فأجابني: نعم.
فالقوة المهيمنة قادرة أن تعطيني المعلومة على بعد آلاف الكيلومترات منها، وهذا جعلني لا أرغب برؤية شيء منها وقررت أن لا أزور متحفاً أو أي مكان أثري، وبقيت شهراً ونصف أجوب الشوارع ولم أترك (غاليري) دون زيارته لأتعرف على ما يحدث، ما يرسمونه وينتجونه الآن، أردت أن أرى الحياة، والتي هي أهم من أي متحف لأنني صدمت بقدرتهم على تسويق كل ما يريدون أن تعرفه وبأدق تفاصيله ولكن لا يهمهم ما تريده، وما تريد أن تعرفه أنت، لذلك قررت أن أعرف الشيء المعاش، ما يحدث الآن.
هل يعتبر المكان من محددات الانتماء والهوية؟
يوجد مثلاً نماذج لتصور (العشاء السري)، أحدهم أنتجه فنان إيطالي، والآخر صيني والثالث مسيحي شرقي، تمكن الشرقي من الوصول لفهمي وقول ما يريده. ببساطة لأنه يمثل ثقافتي. الثقافة الغنية، طريقته والإرث الذي يحمله يصلني بسهولة، ويشعرني بالانتماء والحميمية والقرب منه..
مفهوم الهوية والانتماء ليس مرتبطاً فقط بالمكان ومحتوياته وتفاصيله بل بالإرث الذي نحمله منذ القدم.
كيف يستطيع الفنان أن ينقل من خلال رؤيته الفنية البعد الاجتماعي؟
الأمر مرتبط بدرجة وعي الفنان، خاصة سياسياً، ليستطيع أن يقول ما يريد،. بقدر ما أعي دوري أقوم بمهنتي وأنجزها بطريقة مناسبة، إذا لم أكن واعياً يتحول الفن في النهاية لنوع من التسلية والتزيين. وهذا له علاقة بدرجة وعيه بالمحيط الذي يعيش فيه وارتباطه بالواقع، فالفنان شاهد على الزمن الذي يعيش فيه، كلما كان صادقاً مع نفسه وفنه كانت شهادته صحيحة وصادقة.
قراءة كتاب مثلاً تتطلب معرفة باللغة، هناك حد أدنى من المعرفة يجب أن تتوفر. وجهد يبذل، ودرجة وعي للاختيار بين كتاب وآخر.
الفن ليس جماهيرياً، يوجد كذبة كبيرة حول جماهيرية الفن.. من يملك أرضية ثقافية يستطيع فهم كل شيء، ولكن يلزمه تهيئة أيضاً فواجب النظام التعليمي تهيئة الإنسان لامتلاك أرضية ثقافية، ليرى ويسمع ويقرأ ويهذب ذائقته، هنا يوجد لدينا عطالة تمثل جزءاً من مشاكلنا.
ويلزمه توصيل من خلال الأدوات واستخدام التكنولوجيا، خاصة في زمن تستطيع فيه أن تزور متحفاً وأنت تجلس في بيتك بسبب تطور وسائل الاتصال.
ما هي المادة الخام التي تستخدمها وكيف تقتنيها؟
يخبرنا تاريخ الفن أن أغلب الفنانين الذين قرأنا عنهم أبدعوا أدواتهم الخاصة بهم. وأنتجوا المواد التي استخدموها، عندما تصنع أدواتك التي تنسجم معها، ستعطي خصوصية أكثر وهوية أوضح لعملك، لذلك أصنع أدواتي، هذا مزاج أنا أحب ذلك وغيري قد لا يفعل.
بدأت القصة من فقري ومن وضعي الاقتصادي سابقاً لأنني لم أستطع الحصول على المواد من الأسواق.
ثم اكتشفت لاحقاً أن المواد الموجودة في السوق ليست للفنانين وإنما للهواة، للذين يتعلمون الفن.. الخ.
ألوان ومواد الفنانين غالية وليست متوفرة لهذا السبب وإن توفرت لا يمكن اقتناؤها لغلائها، والشيء الآخر أسعار منتجاتنا لا تكفي لجلب تلك المواد باهظة الثمن، التي لا تخرب ولا تتأكسد. هي مكلفة لفناننا.
بطريقة ما هناك دورة حياة لكل شيء كما للإنسان، ما هو الأثر الذي تركه الإنسان على المكان والطبيعة..؟؟. أنا أبحث عن الأثر. كنت أسكن في الميدان عندما جرى تهديم بناء وتحضيره ليحل محله بناء آخر. وقفت أتفرج وأسأل نفسي عن أرض البيت التي رأت الشمس هذه المرة، يا ترى متى ستغطيها الشمس مرة أخرى؟
وسكان هذا البيت كان لديهم أفكارهم وأحلامهم، وأولادهم كبروا وعاشوا وماتوا.. ما الأثر الذي تركوه. يختزن حياة؟ صار عندي اهتمام بتحويله لفن.. بدأت باستخدام أدوات مستهلكة أجدها أحياناً في الطريق لأعطي هذه القطعة حياة إضافية ثانية.
الأثر الذي تركه الإنسان على الحياة والطبيعة يمكن تحويله لشيء آخر، وخلق أثر جديد فيه. بمعنى إعادة إنتاج جمالية للواقع. فما هو واقع اليوم يصبح غداً جزءاً من تاريخ، يمكن توثيقه وتأريخه من خلال تحويله، ولفت النظر للأشياء الجميلة التي يمكن أن تراها في أقبح شكل ولكن في البداية عليك رؤيته.
تتكرر الوجوه في أغلب أعمالك، ما الذي تريد أن تقوله من خلالها؟
الوجوه هي موضوعي الأساسي، أهتم بالوجوه، وجوه الناس العاديين المهشمين، لأنها نافذة الإنسان على الواقع، تعكس الواقع وتنعكس عليه. هؤلاء الذين تمارس عليهم ضغوط، وهم موضوع لحالة الصراع الجاري.
كيف ترى وضع الحركة الفنية في سورية ومستقبلها على الأقل القريب؟
الأزمة شيء مؤقت في النهاية. الفن السوري يتميز بجديته، ما أعرفه ويعرفه أبناء جيلي، أن التنافس كان على الجودة وصناعة الأفضل لا على النقود والربح.
الآن صار التنافس على الربح والنقود. أتمنى أن يظل التنافس صراعاً على الجودة.
الشخص الذي يجلس ساعات يحفر النحاس ويطعمه بالفضة كان يصارع في سبيل جودة منتجه وفي النهاية يأخذ حقه (يربح). فالجودة أيضاً لها ثمن. لا أقصد أن نتحول إلى حرفيين..!! ولكن أن يصبح النقاش على الجودة واحترام للوقت المكرس لإنتاج الفن. فرغم أهمية المادة يبقى الفن كنتاج ثقافي هو الأول ثم لاحقاً تأتي الأمور الأخرى، ومنها البيع لأجل معيشة الفنان.
مازلنا أولاد هذا الإرث الذي سيبقى مهما كانت الظروف ولكن علينا أن نبحث عنه ونراه ولا تحوله إلى سلعة صرفة.
حاورته : إيمان الذياب