«ثمانية ونصف» فلليني
يحفل تاريخ السينما بالعديد من القصص الممتعة للأحداث المرافقة لإنتاج الفيلم السينمائي, تخلد هذه القصص أفلامها في التاريخ في كثير من الأحيان, وتحديداً عندما يكون الإنتاج صعباً, لا نحظى مع الأسف كمتتبعين بمعرفة قصص الكثير من هذه الأفلام ولكن ليست هذه هي الحال مع فيلم فيدريكو فيلليني «ثمانية ونصف», لأن الفيلم يتكلم بالضبط عن «قصة صناعته».
ينحرف فيدريكو فيلليني رائد الواقعية الجديدة الإيطالية نحو الذاتية السريالية في فيلمه العالمي «لادولشي فيتا», بينما ينتظر العالم الآن فيلمه الجديد الذي فقد الاهتمام به بعد أن تورط مع المنتجين والممثلين, إذ أنه كان ينوي الانسحاب ولكن ربما لحسن الحظ، غير رأيه وقرر أن يكتب فيلماً عن صعوبة كتابته للفيلم, وقام بتسميته «ثمانية ونصف» نسبة لترتيبه بين أعماله حيث يعد فيلمه هذا الأول ذا الإخراج المشترك مناصفة.
يعاني «غويدو» بطل القصة في الفيلم، وهو مخرج كبير، من أزمة هوية عند إخراجه أحد أهم أفلام حياته, ويدفعه غروره للاعتقاد أن حياته هي الدراما الأعظم في الوجود, يريد «غويدو» كل شيء, وهو يخشى الاعتراف بحقيقة عدم قدرته على إخراج الفيلم, ويتهرب من الممثلين والعاملين فيه, لأنه لا يريد أن يمحو عنه هالة «القداسة» الفكرية التي يظنها في نفسه, ولكنه يريد من جهة أخرى، أن يجد السعادة والقبول من خلال رضا المجتمع عنه, ولذلك يتابع محاولاته الفاشلة لكي يحظى برضا الكنيسة والمثقفين والسلطة الأبوية المتمثلة بـ«المجتمع وشركات الإنتاج» عن فيلمه, وهو لا يملك مبدأ محدداً, يريد فقط أن يبتعد عن التقليد, أن يكون حراً متحللاً من قيود المجتمع التي تضيق على أسلوب حياته «الحداثوي». ولكنه من حهة أخرى لايملك الجرأة للتصادم معها, يهرب «غويدو»، تحت ضغط الموقف، نحو عالم التخيلات والرؤى, التي نستطيع من خلالها فقط أن نفهم أزمته, وعجزه عن إيجاد السعادة.
يعتمد فيلليني، على سبر أغوار شخصية بطله من خلال العلاقة مع المرأة, فـ«غويدو» متزوج من «لويزا» التي يشعر معها بحنان أمه والأمان الذي يؤمنه وجودها إضافة إلى كونها نده وشريكه الثقافي, ولكن الغطرسة تدفعهما إلى التصادم لأنه يريد شخصاً يخضع لرغباته, ويطمح إلى مالا تستطيع أية امرأة واحدة أن تقدمه. يهرب «غويدو» منها ويقيم علاقة مع «كارلا» التي تلبي شهواته وتختلف مع ذوقه, ثم يهرب من الاثنين بتخيله للفتاة الجميلة المثالية «كلاوديا».
يتذكر «غويدو» دوماً طفولته السعيدة, عندما كان «غويدو» محط اهتمام وحب العائلة والأصدقاء وتحديداً النساء, ليعتقد أنه مركز العالم, ولكن مع تعقد الحياة وارتكاب الأخطاء يخسر هذا العالم.
يخلق عقاب المجتمع القاسي لديه عقدة نقص جنسية, فهو يريد أن يعود مركز العالم وأن يحظى بحب الجميع, ففي رؤاه يجسد سيادته المطلقة على بيت الحريم, حيث تأوي كل امرأة اشتهاها طيلة حياته, يمارس عليهن ساديته وتسلطه, ولكن هذا العالم سرعان ما يتفكك حتى في الأحلام, فيصبح تائهاً أكثر ويفقد اهتمامه بالواقع, وبرغبة الحصول على كل شيء, ويدرك أنه لا يستطيع إيجاد السعادة هكذا وعليه الانسحاب من كل شيء, وإن عنى هذا تدمير حياته المهنية.
يحرر هذا الانسحاب غويدو من الضغط ونمطية التفكير, ويجعله يدرك الواقع بشكل مفاجئ, ويجد طريقه للحب والسعادة, ويتعلم التصالح مع رغباته ومجتمعه, مع ماضيه ومستقبله, وفي مشهد سريالي على أنغام موسيقا نينو روتا, يتعلم «غويدو» أن الحياة دائرة من السعادة, عليه أن يعيشها سوية مع الناس الذين يدورون حولها.
«ثمانية ونصف» من أهم الأعمال في تاريخ السينما, ومن أكثر الأعمال وجدانية, فنستطيع أن نجد صدى قصة «غويدو» في قلب كل منا, ويتماهى في أسلوب فيلليني الحلم مع الواقع، والذكريات، بإطار كوميدي دون حدود واضحة, مما ترك أثره واضحاً على صناعة السينما لأجيال عدة, وأصبح يعرف بـ«الفيللينيسك», لربما ظُلمت الكوميديا الإيطالية عندما جاء أحد أهم عباقرتها مبكراً جداً وصنع هالة لنفسه لم تستطع هذه الكوميديا تجاوزها.