«سوق سوروتشنسكي» لموسورغسكي: الأوبرا الرائعة التي لم ينجزها مؤلفها أبداً
عندما قدم موديست موسورغسكي أوبراه الكبرى «بوريس غودونوف» في اقتباس عن نص لبوشكين، للمرة الأولى في عام 1874، نال هذا العمل تصفيقاً حاداً من المتفرجين - المستمعين الذين اعتبروه واحداً من أعظم الأعمال الموسيقية الروسية التي كتبت في ذلك الحين. لكن أصدقاء موسورغسكي، لا سيما أعضاء «جماعة الخمسة» الذين كانوا مهتمين ببعث موسيقى شعبية قومية يكون لها دور في توعية الشعب، بدوا قساة أكثر مما ينبغي في الانتقادات التي وجهوها إلى ذلك العمل، غير دارين بالطبع أن الأجيال التالية ستتلقفه بصفته واحداً من أعظم الأوبرات الروسية على الإطلاق.
وكان في موقف الزملاء يومها ما أحزن المؤلف الشاب كثيراً، بل أحبطه دافعاً إياه إلى تأجيل الكثير من مشاريعه والتباطؤ في بعضها الآخر. صحيح أن ذلك الإحباط، وداء الصرع الذي واكبه خلال سنوات موسورغسكي الأخيرة، لم يمنعاه من أن يكتب أعمالاً وأغنيات كبيرة خلال تلك السنوات، مثل «خوفانتشينا» و «لوحات من معرض» لكنه حال بينه وبين إنجاز عمل شعبي كبير كان قد خطط لتأليفه، في اقتباس عن قصة لغوغول. هذا العمل، وعنوانه «سوق سوروتشنسكي»، موجود اليوم بالطبع، وهو يعرض في شكل متواصل، منذ عام 1924 حين قُدّم في مونت كارلو للمرة الأولى، وينتمي كلياً إلى موسيقى موسورغسكي، بل ربما كان الأكثر تعبيراً من أي عمل آخر له عن المسار الموسيقي التأليفي لهذا الفنان الذي مات وهو، بعد، في الثانية والأربعين... لكن المسألة تظل في حاجة إلى توضيح لا بد منه لمن قد يطرح على نفسه أسئلة كثيرة وهو يستمع إلى هذه الأوبرا أو يشاهدها.
> سبب هذه الأسئلة هو أن المتابع سيلاحظ على الفور وجود ألحان عدة ومقاطع كاملة تهيمن على فصول هذه الأوبرا، مستقاة من أعمال أخرى للموسيقي نفسه: من أوبراته المعروفة، وكذلك من مئات الأغاني الشعبية التي كان كتبها وحققت شهرة كبيرة. غير أن موسورغسكي ليس مسؤولاً بالتأكيد عن ذلك التكرار. فالحكاية هي أن الفنان بعد أن طفق يشتغل على «سوق سوروتشنسكي» بكل حماسة أول الأمر، إذ وجد في نص غوغول مجالاً للإبداع في مجال كتابة عمل شعبي قومي عريق، سئم الأمر كله في عام 1878 وتوقف عن العمل على الأوبرا بعدما كان أنجز الفصلين الأولين. وهو لئن كان عاش ثلاث سنوات بعد ذلك فإنه أبداً لن يعود إلى هذه الأوبرا، ما يعني أنه تركها غير مكتملة لدى رحيله. أما الفصلان المنجزان فإنهما قدما معاً في موسكو في عام 1913 في إعداد قام به سيزار كوي. ولكن، بعد ذلك تدخل الموسيقي نيقولاس تشيربنين، وأكمل الأوبرا منجزاً فصلها الثالث الختامي ومحدثاً الكثير من التعديلات على الفصلين الأولين. وهذا الإعداد كان هو الذي قدم للمرة الأولى في مونت كارلو (1924) من دون أن يلقى أي معارضة جدية من هواة موسيقى موسورغسكي أو خبراء فنه. وذلك، بكل بساطة لأن تشيربنين لم يضف شيئاً من عنده، بل أكمل العمل باللجوء إلى تكرار فقرات وجمل مما كان كتبها موسورغسكي للأوبرا نفسها. ثم حين احتاج منه الأمر أكثر من ذلك، لجأ إلى أعمال سابقة لموسورغسكي، استعار منها موسيقاها... فاكتملت تلك الأوبرا أصيلة منتمية كلية إلى صاحبها، حتى وإن كان من المستحيل علينا أن نقول إنها اكتملت كما كان، هو، يريد لها أن تكتمل. ذلك أن الرجل كان يريد منها أن تكون تطبيقاً تاماً وتجديدياً للقوانين التي وضعتها مجموعة الخمسة.
> لدينا هنا إذاً، وبصرف النظر عما كان موسورغسكي يريده، عملاً أوبرالياً كاملاً قد لا يضاهي في قوته «بوريس غودونوف» لكنه بالتأكيد يحتل مكانة أساسية في تاريخ صاحبه، إضافة إلى مكانته في تاريخ الموسيقى الروسية. والعمل كما أشرنا، مقتبس عن نص بالعنوان نفسه لصاحب «الأرواح الميتة» يعبر فيه هذا الأخير عن تعلقه بالتراث الشعبي وقدرته على رسم الشخصيات الغنية بألف لون ولون. وهذه الشخصيات تطالعنا منذ بداية العمل حيث نجدنا وسط سوق شعبية تصخب بالمارة والبائعين واللاهين والبضائع والمشعوذين من كل صنف ولون. ومن بين هؤلاء ثمة بوهيمي يجمع الناس حوله ليروي لهم حكايات مسلية يدور معظمها حول الشياطين الذين تتخذ رؤوسهم سمات تجعلهم يبدون كالخنازير. وفي السوق أيضاً هناك غريزكو، الشاب البائس الطموح والذي، إذ يبدو لنا مغرماً بالحسناء باراشا، ينتهز فرصة لقائه بأبيها حتى يطلب يدها منه، للمرة الألف كما يبدو. هنا، يبدو الأب تشيرينيك، غير ممانع تماماً. لكنه إذ يكون خارجاً من حانة يثمل فيها، يلتقي زوجته كيفريا التي تعارض ذلك الزواج بل تظهر من الاحتقار لزوجها ولغريزكو ما يغني عن أي بيان. وإذ يشكو غريزكو أمره إلى البوهيمي، يعقد هذا معه صفقة: يعطيه الشاب المغرم قطيعه في مقابل عشرين روبل فقط، وفي المقابل ينيله البوهيمي ما يريد، أي يضمن له الزواج بباراشا. هنا، ننتقل إلى دار كيفريا حيث سرعان ما نكتشف أنها تتبرج، لكي تستقبل، ابن الخوري خفية. وهي لكي تتخلص من زوجها حتى يخلو لها الجو، تفتعل خناقة معه وتطرده خارج الدار، فيذهب... مترنماً بإحدى الأغنيات. وهنا يصل ابن الخوري إلى الدار... ولكنه ما إن يبدأ مغازلته للمرأة المتصابية حتى تعلو أصوات تشيربنيك، الزوج، وقد أتى مع أصدقائه الثملين لإكمال السهرة في المنزل. هكذا، تسارع كيفريا الى إخفاء عشيقها في الخزانة... فيما يكون البوهيمي بدأ يقص على الحضور قصة شيطان فعل خيراً في الملكوت الأعلى فأُرسل إلى الأرض وقد عُفي عنه، ومُيّز بأن طُلب منه أن يرتدي ثوباً أحمر. ويصغي ابن الخوري، وهو داخل الخزانة، إلى هذا كله وإذ يسأم البقاء في مخبئه، يغلف نفسه بثوب أحمر من أثواب عشيقته ثم يخرج محدثاً من الصخب ما يريد منه دفع الحضور إلى الاعتقاد بأنه شيطان حقيقي كي يتسنى له الهرب وسط هلعهم ودهشتهم. وبالفعل ما إن يرى الحضور ذلك «الشيطان» بثوبه الأحمر يقفز بينهم، حتى يصيبهم هلع كبير ويرتجفون ويكاد يغمى على بعضهم. لكن البوهيمي الذي كان يعرف سر الحكاية كلها يسارع إلى كشف الحقيقة، أي يكشف سر الفتى العاشق ابن الخوري، وسر علاقته بكيفريا، التي بالتالي، إذ تفقد هيبتها وتسلطها على زوجها المسكين يؤدي انعكاس توازن القوى بينها وبينه، إلى توقفها عن الممانعة دون تزويج ابنتها باراشا بغريزكو العاشق الذي كان دفع قطيعه ثمناً لخطة البوهيمي الناجحة. ويقودنا هذا إلى الفصل الثالث الذي يشغله كله مشهد العرس المليء بالأغاني التراثية والذي يعبّر خير تعبير عن الحياة الشعبية الروسية. وكما ذكرنا فإن تشيربنين الذي أعدّ هذا الفصل إعداداً جيداً ملأه بأغنيات تنتمي كلها إلى «ريبرتوار» موسورغسكي نفسه، كما تنتمي إلى تلك القوانين التراثية الأصيلة التي كانت تنادي بها جماعة الخمسة.
> يشغل موديست موسورغسكي (1839 - 1881) على أي حال مكانة مميزة وسط تلك المجموعة التي كانت أخذت على عاتقها تجديد الموسيقى الروسية مع مزج العناصر الأصيلة فيها (وكان من بين أبرز أفرادها بورودين وغلنكا ورمسكي - كورساكوف...) وهو وقع في هوى الموسيقى باكراً منذ كان طفلاً، حتى وإن كان أهله الأثرياء أرادوا له في شبابه المبكر أن يخوض مهنة الجندية. ولقد درس موسورغسكي عزف البيانو والتأليف باكراً، بل كتب أول أوبرا له وهو دون العشرين من العمر، لكن أعماله الجدية والكبرى احتاجت إلى الانتظار بضع سنوات أخرى حتى تبدأ بالظهور وفرض حضورها منذ عام 1862. ولقد تواصل نشاطه طوال عقد ونصف العقد بعد ذلك، أنتج خلال هذه المدة بعض أروع الأعمال الموسيقية في زمنه. ومات شاباً، كما ذكرنا، مريضاً سكّيراً من دون أن يدري أن موسيقاه ستخلده كما خلد هو الأصالة الشعبية الغنائية الروسية.
المصدر: الحياة