يوميات مواطن أحلام صغيرة وذكريات..!
مرّ أكثر من سنتين ونصف على انفجار الأزمة.. وأكثر من سنة ونصف على أول تهجير جماعي داخلي، وما تبعه من تهجير داخلي وخارجي.. ومازالت رائحة الموت تزداد انتشاراً كل يوم.. ويفقأ العينين الخراب والتدمير.. تلاحقك قصص وحكايات تفوق قصص ألف ليلةٍ وليلة بعشرات المرات، فهناك المئات من أمثال شهريار بلحى ودون لحى.. لم يبق بيت إلاّ وفيه نائحة..!
تهشم الواقع وتكسرت أحلام الكثيرين، ما بين الوهم وبقايا أحلام تصغر كل يوم، وذكريات يقتات عليها رجال وشباب غرقوا في أوهام الإسقاط والحسم.. مازالوا بحاجة لجرعات كبيرة من الثقة ليخرجوا منها. تدور أحداث، وتغرق الغالبية في الصمت الذي طغى عليه صوت الانفجارات ولعلعة الطلقات المتعمدة والعشوائية على حد سواء كل يوم، وكانوا هم الضحية.. ضحية الجنون والجهل والخوف المزروع منذ عقودٍ وازداد بعد انفلات العِقال.. «ماذا تكتب لتكتب.. كلّهُ مكتوبٌ في اللوح المحفوظ.. وما كتبت، ولكن الله كتب..» يقولها أحد اليائسين والمحبطين مستسلماً بعد أن ألقى آخر ما تبقى لديه من أنفاس الأمل..
وحدهم الأطفال ظلوا يبحثون عن أحلامهم الصغيرة المسروقة.. بكى الصغير علي كثيراً عندما عادت أمه من رحلتها الطويلة إلى «محافظتها الأصلية..!» لتقبض راتبها الذي ذهب ثلثه أجور نقل، ولم تحضر له دراجته، ولم يقتنع أنها لم تستطع الوصول إلى الدار فالتفت إلى والده وصرخ قائلاً: متى نرجع إلى البيت لأركب دراجتي؟؟ يجيبه الأب مخفياً عينيه الدامعتين: قريباً يا بني..!
أما العجائز فمازلن يعشن على ما بقي لهن من الذكريات.. يمارسن عشقهن في سرد القصص والحكايات للزائرين وللأحفاد..
أمّ علي.. الجدة التي ناهزت الخامسة والثمانين تتسلى بسرد قصة زفافها على صهوة حصان في قريتها مع أغاني العتابا والموليه، وتنقلاتها مع زوجها في مدن وقرى الوطن.. من الفاخورة في جبال الساحل ومناديل أهاليها الملوحة في وداعهم، إلى تل مريبط المشهور بسمكه الشهي، وآثاره القديمة على ضفاف الفرات شمال الرقة. ولم تنس أيضاً ذكرياتها في شقا وشهبا في جبل العرب وكيف دبكت وهي تلبس الزي الجبلي، وتتباهى أنها شاهدت أسمهان، وهي تغني: «يا ديرتي لا تعتبي علينا.. لومك على من خان..!!». وأنها تذوقت العنب في الجزيرة السورية، إلى أن حطّ بها الرحال في قريتها حيث مرض الجد وتوفي هناك، وتتابع حكاياتها عن شقاوة أبنائها وهم يتضاحكون حتى يغلبهم النوم..
وتحدث الزائرون عن حديقة بيتها وشجرة الليمون المجنونة التي تنمو في كل اتجاه وأزهارها الوردية.. وتذكر ابنها كل يوم بوصيتها: «إذا مت لا تدفنوني هنا، بل هناك.. وإذا لم تتمكنوا، ادفنوني هنا.. ولكن انقلوا عظامي عندما تستطيعون..!!» ثمّ تقوم إلى صلاة العشاء تختمها بالدعاء «اللهم احفظ أولادي وأحفادي وكل السوريين..» ويخرج ابنها مدارياً دمعته، وهو يسمع نشيجها المكتوم..