«المثقفون المزيفون».. انتصار وفضائح
«أجل.. أقول وأكرر: رفضت طبع كتابي أربع عشرة داراً للنشر، إنه كتابي الذي يتحدث عن أولئك النجوم الإعلاميين الذين يتولون مهمة تضليل الناس، فبعض الناشرين وجدوا الكتاب موغلا في السجال، وآخرون منهم وجدوني أكشف حقيقة كتاب ومؤلفين يطبعون كتبهم لديهم.. لكن كثيراً من الناشرين رفضوا المغامرة بمستقبلهم ومصالحهم خوفاً من ذوي السلطان والنفوذ رغم اعترافهم بقيمة ومصداقية محتوى كتابي.. لم يكونوا راغبين في جلب سخط الكبار عليهم»
من كتاب «المثقفون المزيفون»
كانت هذه بعضاً من الكلمات التي افتتح بها الكاتب الفرنسي الشهير «باسكال بونيفاس» كتابه الأخير، وقد يظن من لم يقرأ هذا الكتاب بأن «باسكال» يعتد بنفسه كثيراً، لكن النجاح الكبير الذي حققه صاحب هذه الأقوال، والحرب الإعلامية الشعواء التي شنت عليه وعلى نتاج بحثه هذا، تكفل له مكاناً محترماً بين صفوف المتنورين من أصحاب الثقافة والفكر خلال السنتين الماضيتين بالذات.
يفضح «باسكال بونيفاس» في كتابه «المثقفون المزيفون - Les intellectuels faussaires» كيف يصنع الإعلام خبراء في الكذب، ويشير إلى استحواذ فئة من الصحافيين والمعلقين والمثقفين من عديمي الضمير على الفضاء الإعلامي والثقافي الفرنسي، بهدف توجيه الرأي العام نحو قناعات أيديولوجية أحادية البعد، ويمضي في الحديث عن أنشطة وأفكار العديد من المثقفين والإعلاميين الفرنسيين الأكثر شهرة في فرنسا والعالم الفرانكفوني، وبعضهم معروف على نطاق دولي، يشتركون جميعاً في الترويج للسياسات الأميركية والأطلسية و«الإسرائيلية»؛ منهم الشهير «برنار هنري ـ ليفي» «مثقف التزوير الأعظم في هذا العصر وأكبر نجم تلفزيوني فرنسي بإطلاق»، كما وصفه الكاتب، كما خصص له 47 صفحة أي حوالي 30% من الكتاب، وهو ما يؤكد إصرار «بونيفاس» على تحدي الرجل الذي افترى عليه شخصياً عندما ضمه إلى قائمة المعادين لـ«إسرائيل» إثر نشره كتاب «هل نستطيع نقد إسرائيل؟» كما يفضح بالبراهين والبينات الأكاذيب التي يروجها عمداً، وليس خطأ، مجموعة من الإعلاميين المشاهير في القنوات الفرنسية القوية مثل كارولين فوريست وفريديريك إينسل ومحمد السيفاوي المختص في القضايا الإسلامية، وفيليب فيدال الذي كان وراء زوبعة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة.
لا يوفر الكاتب جهداً في الإشارة إلى التزام أولئك «المثقفين» بالدفاع عن «إسرائيل» مهما فعلت، فهي في رأيهم الحصن الحصين وخط الدفاع الأول، لذلك تراهم يغضون الطرف عن الجرائم الإنسانية المرتكبة ضد الفلسطينيين كما يمتنعون عن عرض أي رؤية لأشكال التمييز العنصري ضد العرب في البلدان الغربية، ويلقي «بونيفاس» باللائمة على وسائل الإعلام التي تفسح المجال للكذابين والمفترين المدافعين عن مصالحهم ضد مصالح العامة دون استحياء أو احترام للجامعيين والباحثين الجديرين بألقابهم وأبحاثهم، لذلك فقد عانى كتاب «المثقفون المزيفون» أشد المعاناة في الانتشار والتعريف به لدى تلك الوسائل الإعلامية، لكن تلك المعاناة ساهمت في التعريف بالكتاب وبيان قيمته حتى حقق نسب مبيعات وصلت إلى ستين ألف نسخة بعد بضعة أشهر من صدوره في العام 2011، ومئتي ألف نسخة بعد أقل من عامين على نشره بالرغم من تجاهل وسائل الإعلام الفرنسية له على نحو شبه كلي.
على كل حال، يحمل هذا الكتاب خلاصة بحوث طويلة قادها «بونيفاس» في مواجهة التطرف الفكري والتشويه المعرفي، وهو الأخير في سلسة طويلة من الكتب والأبحاث التي تستحق المتابعة والنشر، وتبقى الإشارة إلى أن هذا الكتاب قد ترجم أخيراً إلى اللغة العربية في دمشق من الكاتب والمترجم السوري المقيم في باريس «هاشم صالح» والذي حوت مقدمته استفساراً على غاية كبيرة من الأهمية: «سوف أطرح هذا السؤال المتهور: من سيؤلف كتاباً عن المثقفين الغوغائيين المزيفين في العالم العربي؟.. من سيتجرأ على ذلك مع ذكر الأسماء كما يفعل «بونيفاس»؟.. لم تخلقه أمه بعد!.. ذلك أنه لا توجد دولة قانون لكي تحميه إذا ما احمرت عليه الأعين وهموا بتصفيته من عدة جهات!».