«تأثير سيء»... وسؤال الهوية القاتلة!
منذ عقدين والسينما التشيلية تقدم تحفاً سينمائية. على المستوى الروائي يقف وراء أكثر نتاجاتها أهمية المخرج الألمعي بابلو لورين، الذي لم يكل عن تقديم جواهر، آخرها «نيرودا» وفيه تناول مقطع قصير من حياة الشاعر الكبير وكعادته حاكم فيه بأسلوبه السينمائي الرصين تاريخ ديكتاتوريات بلاده الذين يظل أشدهم كرهاً إلى نفسه، الجنرال بينوشيت، الذي خصص لمرحلة حكمه السوداء «ثلاثية التاريخ»: «توني مارينو»- 2008، «بوست مورتيم»- 2010 و «لا»- 2012، لينضم في مراجعاته السينما/ تاريخية إلى جوقة المخرجين الكبار مثل باتريسيو غوزمان مطارد الجنرال في وثائقياته المبهرة، «حنين إلى الضوء» و «زر اللؤلوءة» وجهده الرائع في تسجيل سيرة الزعيم الوطني «سلفادور الليندي»؛ فيما عَبَرت المخرجة الشابة كلاوديا هواغوميلا إلى ساحتهم بجواز سفرها الأول «سان خوان.. الليلة الأطول» وتعود اليوم إليهم بفيلم «تأثير سيء» لتقوي موقعها بينهم بل ربما تتفرد عن بعضهم في معالجة حساسيات اجتماعية ذات صلة بواحدة من أكبر مشكلات تشيلي: الهوية.
ربما تكون تشيلي بدرجة أكثر عن غيرها من دول مستعمرات اسبانيا السابقة، تنازعت هويتها القومية بقوة بين انتمائها لأصولها الهندية أو القبول بـ «أوروبيتها» المتكرسة بسطوة الغازي الإسباني، الذي ومنذ أن وطأت أقدامه أراضيها عمل على تغيير تركيبتها الاثنية والدينية ومع الوقت صار الهندي (المابوتشاني) الأصلي مواطن من الدرجة الثانية ليتعرض بسبب هويته لتمييز عرقي لم يظهر على الشاشة كما ظهر في السينما الأميركية لهذا تكتسب الأفلام المتناولة أوضاعهم الحالية طابعاً اكتشافياً تنقيبياً في ظاهرة مسكوت عنها رسمياً. وهذا ما عملت على معاندته المخرجة الهندية الأصل كلاوديا هواغوميلا في فيلمها الأول وعادت في منجزها الأخير «تأثير سيء» لعرضه من زاوية أوسع تتيح النظر إلى المشكلة التشيلية بأبعاد اجتماعية سياسية، على رغم تركيزها على الجوانب الإنسانية.
ولقد رمزت المخرجة الى تلك الجوانب، بحكاية المراهقين تانو (الممثل أندرو بارغستيد) وتشيو (الممثل أليسو فِرنانديز) حين اجتمعا في جنوب تشيلي صدفة ونشأت بينهما أواصر صداقة نقل أحدهما للآخر على أثرها، عدوى أمراضه. لكن التأثير السلبي الأكبر سيظهر في المراهق (الأبيض) الآتي من العاصمة سانتياغو إلى منطقة وولمابو بغاباتها البكر وطبيعتها الرائعة التي طالما تغنى بها الشاعر التشيلي نيرودا، وحيا أصوله بزياراته المتكررة لتلك البقاع التي تخضع اليوم لتدمير ممنهج بسبب إقامة الدولة مشاريع صناعية لا تعود بالنفع على سكانها، بل على العكس تدمر بيئتهم وتهدد وجودهم، الذي طالما تشبثوا به. وهناك سيجد المراهق المُبعد بسبب ارتكابه جرائم سرقة نفسه وسط صراع لم يسمع به من قبل.
فهو حين وصل متذمراً إلى بيت والده، الذي تركه مع والدته وانقطع الاتصال به طيلة سنوات، تعرف على صبي بعمره اسمه تشيو. خجول وحيد يتعرض للضغط والاهانة من قبل زملائه في المدرسة بسبب أصوله المابوتشانية ومع كل ذلك حافظ على هدوئه. في عزلته وآلامه ونشأته الأنثوية في غياب أب لا يعرف عنه شيئاً وجد في الروح الهائمة القادمة من المدينة ملاذاً له، على رغم عيوبها. علمه على السرقة من المحلات وتدخين المخدرات وعامله بترفع واحتقار أحيانا ومع ذلك صبر على صداقته. بهاتين الروحين الهائمتين تمثلت شيلي في نظرة مخرجة تعرف العالم، الذي تريد نقله على الشاشة جيداً. تعرف كل شبر فيه ولأنه ترسخ في ذهنها منذ الصغر فقد عرفت من أين تصوره لدرجة تبدو لقطاتها الواسعة المأخوذة للمكان الحاضن للصبيين وكأنها «ملصقات بريدية» من جنوب تشيلي الرائع الجمال المذهل في براءته وسكونه. لكنها لا تذهب مع شريكها في الكتابة بابلو غرين (كتب أيضاً نص فيلمها الأول) الى جوهر المشكلة بفجاجة بل تركت العلاقة الناشئة بينهما وبقية الشخصيات تأخذ وقتها لتتيح عبرها للمشاهد فرصة التعرف على صراع محتدم لا يظهر على السطح بسهولة بل ثمة حاجة للانتظار والترقب حتى تحين اللحظة التي يتجسد فيها أمام الأنظار.
عن الحياة...