«بقعة ضوء» يكشف «رسالته السرية» لهذا العام!
لا تزال مغرية وجذابة موسيقى «بقعة ضوء» لطاهر مامللي، ابتداء من الشارة التي يغنيها كل من ديما أورشو وعاصم سكر، وصولاً إلى الموسيقى التصويرية للمسلسل. لا يتعلق الأمر بجمالية الأغنية والموسيقى فحسب، بل وبجاذبية الكوميديا السوداء التي تعد مشاهدها بقدر كبير من السخرية المترافق مع قدر عميق من كشف الأسرار وقول المحظور.
منذ سنوات عدة، لم يعد الأمر كذلك. بات بإمكاني أن أكتفي بشارة البداية، لأضغط مع انتهائها زر الريموت كنترول وأنتقل معه إلى أية قناة أخرى، وبت أفعل ذلك عمداً، وبشكل متكرر في الموسم الحالي (الثاني عشر)، لأن الأغنية والموسيقى اللتين أحببتهما ستتحولان - في حال اقترانهما المستمر بالمضمون المتهاوي للأجزاء الأخيرة من المسلسل، وربما بتأثير منعكس بافلوف الشرطي- إلى شيء مكروه ومنفر!
يوم أمس، وأثناء زيارتي أحد الأقرباء، ولأنك كضيف ينبغي ألا تكون لجوجاً، كنت مضطراً لمتابعة حلقة كاملة من «بقعة ضوء12» ممتثلاً لرغبة المضيف. استفزتني كثيراً الحلقة التي سأتناول هنا إحدى لوحاتها، وفي لحظتها فكرت بكتابة مادة صحفية عنها. بمجرد عودتي إلى البيت، شغلت حاسوبي وبدأت أنقب في الانترنت عن حلقات الجزء 12 من المسلسل، وشاهدت متفرقات منها لمدة تزيد عن ست ساعات، وذلك لكي أكون موضوعياً قدر الإمكان فلا أحكم على المسلسل انطلاقاً من لوحة واحدة. النتيجة هي أن كل ساعة انقضت من المشاهدة لم تفعل سوى أنها زادت من استفزازي ومن قناعتي بأن المسلسل يستحق نقداً لاذعاً لن تكفيه مادة صحفية واحدة..
في الحلقة 22، حلقة البارحة، اللوحة الثانية جاءت بعنوان «الرسالة السرية» تأليف معن سقباني. تبدأ اللوحة في بيت المدير العام المعين حديثاً (بشار اسماعيل)، والذي يستعد للذهاب لأول مرة إلى الشركة العامة التي أوكلت إليه (ومن فوق) مهمة إصلاحها، باعتباره رجلاً شريفاً ونزيهاً ولكون «ريحة» تلك المؤسسة «طالعة»..
يبدأ المدير العام الجديد «أعماله الإصلاحية» مع ركوبه السيارة باتجاه المؤسسة عبر تحقيق أولي مع السائق الذي يعمل في المؤسسة، فيشير عليه هذا بأن أكبر الفاسدين هو رئيس قسم المشتريات، وبعد التحقيق مع هذا الأخير ومراجعة بياناته يتضح أن لا شيء يثبت فساده، ورئيس المشتريات بدوره يتهم مديراً فرعياً آخر.. وهكذا يتنقل المدير العام من إدارة إلى أخرى ضمن مؤسسته بحثاً عن «الفاسد»، ليصطدم بأنّ جميع موظفي المؤسسة ملتزمون بالأصول القانونية، و«أولاد حرام» لا يمكن أن يمسك عليهم شيئاً.. ولذلك فقد بات في حيرة من أمره ولم يعد يعلم ماذا يفعل ولا بمن يشك.. وعندها تخطر له «الفكرة العبقرية»: يرسل ليلاً ومن رقم غريب «رسالة سرية» لجميع المسؤولين والموظفين الذين يعرفهم، نصها هو التالي: «مصيبة كبيرة.. انكشفنا»
يتجه في اليوم التالي إلى مؤسسته منتظراً النتائج، ومراهناً على أنّ «الفاسد» سيخاف، ولن يحضر إلى الدوام. يصل مؤسسته ليجدها، كما يمكن للمشاهد أن يتوقع ببساطة، فارغة ليس فيها أحد.. حتى السائق الذي كان موبايله مغلقاً يوم أمس فلم تصله الرسالة يترك المدير ويهرب بمجرد معرفته بالموضوع.. كذلك الأمر مع الوزير.. ليلقي المدير الشريف حكمته في النهاية قائلاً: «يا حرام يا هلوطن.. يا حرام»
هكذا ببساطة.. المقولة واضحة وشديدة الوقاحة (شعب فاسد بأكمله) بما في ذلك الوزراء، ولا نعلم إن كان المسلسل يقصد بالذين (فوق) الوزراء وحدهم أم يضم إليهم آخرين.. بكل الأحوال فلسنا «حزينين» بأي شكل من الأشكال على (فوق)! ولكن ما يثير الاستهجان هو هذا الاستسهال والتسطيح.. فالقول بأن الكل فاسد يعني أمرين: أولاً أن لا أمل في إصلاح شيء، وثانياً أن ما بكم (أيها الشعب السوري الفاسد) من فساد وأزمات هو من صنع أيديكم جميعاً، كلكم بالتساوي، ولذلك فإنّ ما يجب تغييره هو الشعب نفسه!
إنّ من عادة الفاسدين الكبار، ليس في بلدنا فقط، بل وأينما وجدوا، أن يعمموا ثقافة الفساد، وأن يرغموا الناس على انتهاجها والسير في سراديبها القذرة، لأن إفقار البشر وتجويعها، سيدفعها لفعل أي شيء.. أي شيء يمكن من خلاله لأب أن يطعم أبناءه ويقيهم الجوع.. هل يمكن مقارنة هؤلاء «الفاسدين الصغار» بفاسدي المليارات؟ أولئك الذين يبتلعون منذ ما قبل الأزمة ما يصل إلى ثلث الناتج المحلي السنوي؟ ولا شك أن الأرقام الآن أكبر..
ليس كل هجوم على الفساد هجوماً وطنياً..! فهنالك من يريد بهذا الشكل من الهجوم أن يخبئ الفاسدين الكبار ضمن «مجتمع فاسد بأكمله».. هنالك هجوم شكلي ومنافق على الفساد، يقوم به الفساد الكبير نفسه..! ويبدو أن «بقعة ضوء» تحولت إلى واحد من منابر هذا الهجوم.. وللحديث بقية..