صاحبة كلمات الحب في حياة تشايكوفسكي
«تمنحني موسيقاك ورسائلك دقائق تجعلني أنسى كل صعب ورديء. أنت الشخص الوحيد في العالم الذي يمنحني مثل هذه السعادة العميقة والسامية، وأنا أشكر لك هذا بلا حدود. أشعر بتعلق شديد بك وبكونك عزيز وغال لدي إلى درجة أن الدموع تغمر عينيّ ويهتز قلبي إعجاباً . يا إلهي كم أشكرك على هذه الدقائق الغنية بسحر موسيقاك، وبها أصبحت حياتي أكثر نوراً ودفئاً. لا أستطيع وصف شعوري وأنا أستمع إلى مؤلفاتك. أنا مستعدة لأمنحك روحي، أصبحت معبودي. كل ما هو أنبل وأنقى وأسمى يرتفع من أعماق النفس».
بهذه الكلمات العميقة الساحرة خاطبت «ناديجدا فون مك» المؤلف الموسيقي العظيم الروسي بيوتر تشايكوفسكي. كانت ناديجدا نفسها موسيقية ومن العشاق المتحمسين للمواهب الموسيقية وكانت أول من أعلن تشايكوفسكي عظيماً وعبقرياً. وقد كتب لها: «يبدو لي أنك تتعاطفين مع موسيقاي لأنني دائماً مفعم حنيناً لمثل أعلى شأنك أنت تماماً. معاناتنا واحدة ، شكوكك قوية كشكوكي، نحن نسبح نحو هدف واحد في بحر ريبة بلا ضفاف، نبحث عن مرسى ولا نجده. أليس هذا ما يجعل موسيقاي عزيزة لديك؟ أشكر لك صداقتك التي لا تُقدر بثمن».
حوار «عاطفي»..!
كان عام 1877 بالنسبة إلى تشايكوفسكي حافلاً بالأحداث السارة والتراجيدية. بدأ في الشتاء مؤلفين: أوبرا «يفغيني أونيغين» والسمفونية الرابعة، وقد جلبتا له بعد سنة -على أثر أدائهما في الحفلات الروسية في المعرض العالمي بباريس- شهرة عالمية. وجرت في حياته حادثة أخرى أيضاً، فقد بذل أول وآخر محاولة للزواج. وأثارت فيه هذه التجربة صدمة قوية جداً ومن ثم كآبة عميقة. وغادر الكونسرفاتوار وترك النشاط التعليمي إلى الأبد، وذهب إلى إخوته في بطرسبورغ. في تلك الفترة الصعبة من حياته قدمت له «ناديجدا فون مك» دعماً كبيراً. وهي ابنة ملاك من مدينة سمولينسك في روسيا وقد زُوجت مذ أن كانت في السادسة عشرة من العمر للمليونير «كارل فون مك». وقد علمت من أحد أصدقاء تشايكوفسكي بالصعوبات المادية للملحن الشاب، ووجدت وسيلة مناسبة لمساعدته، حيث أوصته بعدة أعمال موسيقية زهيدة ودفعت لقاءها بسخاء. وأعقب ذلك رسائل مجاملة أسفرت فجأة عن حوار عاطفي لم يتوقف سنوات طويلة. وهذا شبيه ما جرى بين مي زيادة وجبران خليل جبران.
«كلمة الفن الأخيرة..»
ولكن إذ نقرأ هذه السطور لا ينبغي أن ننسى أنه لم يكن عند تشايكوفسكي في علاقته بـ«ناديجدا» إلا حاجة شديدة إلى الصداقة. وكان الأمر مغايراً عندها لأنها كانت قبل ذلك بأمد قصير قد دفنت زوجها وشعرت بوحدة مريعة، وبدا أن كل مسراتها وأوجاعها تركزت على معبودها تشايكوفسكي. ففي خريف عام 1879 كتبت في صدد توزيع السمفونية الرابعة -التي أهداها لها- على البيانو: «إنها كلمة الفن الأخيرة، ولا طرق بعدها، إنها سقف العبقرية، إنها إكليل النصر، يمكن للمرء أن يقدم روحه ويفقد عقله لقاءها، ولن يكون آسفاً على شيء. إلى اللقاء يا حبي يا سعادتي».
حب صامت!
استمرت المراسلة أكثر من ثلاث عشرة سنة. كانت أحياناً مكثفة وغنية ومتقدة. وكانت أحياناً عملية وجافة. كتبت في رسالة: «لا أعرف هل تستطيع أن تفهم الثقة التي أشعر بها إزاءك. أتعرف أنني أغار عليك بأكثر الأشكال بعداً عن اللياقة؟ أتعرف أنك حين تزوجت كانت وطأة ذلك شديدة عليَّ إلى درجة مرعبة وكأنما انتزع شيء من قلبي؟ أحسست بالألم والمرارة، كانت فكرة قربك من تلك المرأة أمراً لا يُطاق بالنسبة إلي، وهل تعرف كم نفسي شنيعة؟ فقد فرحت حينما لم تكن مسروراً معها. لمت نفسي على هذا الشعور، وأعتقد أنني لم أترك لك مجالاً لتلاحظه، ومع ذلك لم أستطع أن أكتمه في نفسي، فالإنسان لا يوصي لنفسه بالشعور الذي يريده. كرهت هذه المرأة لأنك لم تكن مسروراً معها، ولكن لو كنت مسروراً معها لكرهتها أكثر مئة مرة».
في غضون تلك السنوات أصبح تشايكوفسكي بالفعل عظيماً ومشهوراً على النطاق العالمي. وقد تقدم بهما العمر بما فيه الكفاية -كانت ناديجدا تكبر تشايكوفسكي بتسع سنوات- وفجأة انقطعت المراسلات كما بدأت بلا أية تفسيرات. ثمة أيضاً جانب بارز آخر في ذلك الحوار بين النفسين القريبتين البعيدتين، فهما لم يتقابلا في يوم من الأيام، وجهاً لوجه، ولا مرة واحدة.