بليخانوف.. و«ذوو الفكر النقاد»

بليخانوف.. و«ذوو الفكر النقاد»

 

تناول بليخانوف في كتابه «دور الفرد في التاريخ»، مشكلة الفرد وعلاقته بالتاريخ تناولاً شاملاً وعميقاً، وعالجها بذكاء، وهي إحدى المشاكل الهامة والحادة، اكتسبت أهميتها من كونها مشكلة نظرية عملية وسياسية في آن معاً. 

رفض بليخانوف الاتجاه الذي طغى على التاريخ قروناً طويلة، وأراء مفكريه المدافعين عن التأويل البطولي للتاريخ، حيث نسبوا إلى الفرد دوراً متعاظماً واعتبروه المحرك الأساسي للتاريخ، الذي أصبح بنظرهم مجرد ملحمة لبعض الأبطال المتوجين أو لبعض الشخصيات العظيمة من ذوي الفكر النقاد. كما رفض رد الفعل المعاكس لهذا الاتجاه، والذي آل ببعض خصومه إلى الغلو في المنهج المعاكس، معتبرين الفرد هُملاً لا قيمة له. 

وأجهدوا أنفسهم ليثبتوا أن الحركة التاريخية تخضع في مسيرتها لقوانين معينة.


وحاول بعضهم أن يقيموا الدليل على هذه القوانين من خلال الأثر الذي تخلفه العوامل الطبيعية في المجتمع، وبخاصة الإقليم والبيئة الجغرافية، فكأنهم بذلك نسوا أن الإنسان هو الذي يصنع التاريخ، مما يعني أن الفرد يقوم  بدوره التاريخي حتماً. رفض بليخانوف آراء الفريقين لأن كليهما لا يقدم حلاً للمشكلة من جهة، ولكونه لا يؤسس لفهم علمي للتاريخ من جهة أخرى، وأكد بليخانوف أن «الأفراد ذوو الفكر النقاد» يشكلون أحد العوامل التي أملت حركة التطور، بينما تشكل القوانين التي تحكم هذه الحركة العامل الآخر، يقول بليخانوف «ونرى، من الوجهة النظرية، إن هذا الغلو لا يمكن أن يغتفر، شأنه شأن ما انتهى إليه سابقوهم . فليست التضحية بالموضوعة في سبيل نقيضها أكثر صحة من تناسي النقيض في سبيل الموضوعة. ولن نصل إلى وجهة النظر الصحيحة إلا عندما نتمكن من أن نجمع في التوليف أقسام الحقيقة التي تحتويها الموضوعة ونقيضها». 
أداة الصيرورة التاريخية
من أجل حلّ الخلاف المستعر نسبياً في هذه المسألة، كان من الضروري لعلم التاريخ أن يراعي ليس فقط فاعلية الرجال العظام، وإنما مجموع الحياة التاريخية وفي مقدمتها الضرورات الكامنة وراء الحدث التاريخي، فمهما يفعل الإنسان فإن عمله يظل خاضعاً لظروف معينة، ويتساءل بليخانوف: «ولكن إذا كان كل عمل ينجزه الفرد، عندما يتحقق، يشكل هو أيضاً حادثاً تاريخياً. فبم تمتاز، إذن، هذه الأحداث التي تتم من تلقاء نفسها؟» الحقيقة أن كل حادث تاريخي، يؤمن، على وجه التأكيد، حسب رأيه، «لبعض الناس جني الثمار اليانعة من التطور السابق، كما أنه في الوقت نفسه حلقة في سلسلة الحوادث التي تهيئ ثمار المستقبل». وهو يعتقد أن الشروط التاريخية العامة أقوى من الأفراد الأقوياء، وتغدو سمة العصر، بالنسبة إلى الرجل العظيم، «ضرورة معطاة تجريبياً».
فالفرد أداة بسيطة من أدوات الصيرورة التاريخية، التي لا يمكن النظر إلى الأحداث إلا من خلالها، إنه ليس سوى أداة من أدوات الضرورة التاريخية، ولا يستطيع أن يكون غير ذلك، مهما كان وضعه الاجتماعي، أو صفاته الأخلاقية والعقلية المنبثقة عن هذا الوضع.
الدخول في ملكوت الحرية
وهناك أيضاً مظهر آخر من مظاهر الضرورة، فإذا كان وضع الفرد الاجتماعي يلزمه بالخضوع لها، فلا سبيل أمامه إلا أن يكون أداة هذه الضرورة ورهينها، بل يود بشوق أن يكون كذلك، ولا يستطيع أن يسلك طريقاً أخرى، وهذا مظهر من مظاهر الحرية المتولدة عن الضرورة، وبعبارة أدق: الحرية المتماثلة مع الضرورة أو الضرورة التي استحالت حرية، أي بمعنى أن إدراك الإنسان لهذه الحقيقة يلزمه بضرورة وعي الضرورة وبالتالي الإنعتاق منها، مما يعني الدخول أكثر فأكثر في ملكوت الحرية، وعندها سيحيا حياة جديدة رحبة لا مراء فيها، طالما يزيح عن كاهله هذا الإكراه، أو هذا النير المؤذي الذي ينال من قدرته، وستغدو فاعليته الحرة تعبيراً واعياً حراً عن الضرورة. وتصبح هذه الفاعلية قوة اجتماعية لا شيء يمنعها من أن تتفجر.
وعندما يعي فرد ما، الضرورة الملازمة لحادث ما، فإن ذلك سيزيد في طاقة الشخص الذي يواجه هذا الحادث، فيتجاوب معه ويعتبره نفسه إحدى القوى التي تحدد وجوده. أما إذا وقف الفرد، وشبك ذراعيه دون يفعل أن شيئا فإنه يبرهن على جهله فقط لأن استسلامه وقعوده عن الفعل يمثل قوة سلبية، وليست الضرورة هي السبب في ذلك حسب بليخانوف، وإنما يكمن السبب في التربية التي نالها الفرد فظروف ثقافته قد تجعله يحمل في نفسه ميلاً إلى العطالة، بينما يمثل اليقين المتزن في قلوب الرجال الأشداء الفاعلين والواثقين، تعبيراً ذاتياً عن الضرورة الموضوعية،  وبكلمة واحدة: قوة إيجابية. وفي هذه الحالة يعطي الرجال الدليل على قدراتهم  التي لا تقاوم أو تغالب، ويقومون بالأعمال العظيمة المدهشة.
تبقى وجهة نظر بليخانوف امتداد لوجهة نظره في تفسيره المادي للتاريخ ونلاحظ في استعراضه لدور الفرد الصانع للتاريخ أنه يظل أمينا لمذهبه حتى النهاية.

يستطيع بعض الأفراد التأثير في المجتمع ومصيره من خلال مواهبهم وميزاتهم وخصائصهم التي يتمتعون بها، ولكن هذا التأثير يبقى محدداً بالتنظيم الاجتماعي الذي ينتمون إليه، وبالبنية الداخلية لهذا المجتمع، وموقعه، وعلاقاته بالمجتمعات الأخرى، فإمكانية حدوث مثل هذا التأثير والمدى الذي يمكن أن يصل إليه مشروطان ومحددان بتنظيم المجتمع وبعلاقات القوى الاجتماعية. ومهما تكن ميزات الفرد وخصائصه الفردية، فهي لا تصبح «عاملاً» من عوامل التطور الاجتماعي إلا بمقدار ما تسمح لها العلاقات الاجتماعية بذلك. لأن الفعل التاريخي لا يمكن أن يتحقق إلا في شروط اجتماعية محددة. فمثلاً كانت أسباب الثورة الفرنسية قائمة على طبيعة العلاقات الاجتماعية نفسها وليس على الخصائص الفردية التي اتصف بها الأفراد.. أما خصائص الفرد الشخصية فإنها لا تفعل شيئاً أكثر من جعل صاحبها أقدر على تحقيق الحاجات الاجتماعية الناشئة أو معارضتها. وهكذا كانت  فرنسا، من الوجهة الاجتماعية بحاجة قصوى في نهاية القرن الثامن عشر، لأن تستبدل المؤسسات السياسية البائدة بمؤسسات أخرى أكثر انطباقاً على نظامها الاقتصادي الجديد.