أدب المراسلات واليوميات (2/2)
خاضت البشرية معارك تحررية عديدة، أصبحت تاريخاً للأجيال الفتية التي تتوق إلى الانعتاق والعدالة الاجتماعية. تبدو تلك الأجيال المتعاقبة كأبطال أسطوريين من حكايات الماضي، أنجزوا خلال حياتهم القصيرة الكثير، ورغم أن أغلبهم أشخاص مجهولون، لا تعرف سيرتهم سوى بعض المكتبات وكليات التاريخ. لكنهم تركوا آثاراً صغيرة، تركوا مراسلاتهم اليومية مع الأهل والأقارب. التي احتوت هذا الأدب النثري «أدب الرسائل».
ليست النصوص المختارة التالية سجلاً تاريخياً، ولكن التاريخ يعيش في كل سطر من سطورها.
ستشرق الشمس قريباً
كانت لوسيك ليسينوفا مسؤولة منظمة الحزب البلشفي في مدينة موسكو عشية ثورة أكتوبر قادت الفصائل المسلحة للطبقة العاملة، رغم أنها طالبة جامعية لم يتجاوز عمرها 19 سنة فقط، واستشهدت قبل انتصار الثورة بيوم واحد عام 1917 ودفنت في الساحة الحمراء.
كانت تكتب الرسائل باستمرار إلى أهلها، وهي تقود المعارك في خطوط الجبهة. تحولت رسائلها إلى نصوص أدبية رائعة مليئة بالصور والمشاهد والأحاسيس وكأنها شاعرة محترفة.
تقول في رسالة إلى أختها أناهيد بتاريخ 9 أيار 1917: «ستشرق الشمس قريباً وستتفتح البراعم وستكنس الحياة نفسها آخر شكوك الشتاء، أناهيد تذكري بأنني أعيش حياة كاملة!». وتكمل في رسالة أخرى: «أناهيد هل أنت سامعة؟ لدي قوى هائلة، وأنا أتحسس كل ما يكمن في دخيلتي، وليست هذه القوى كامنة فيّ وحدي، بل في كل منا، في جميع العاملين في هذا العهد الوليد الجديد، وفي الطبقة التي تخلق هذا العهد».
« لا أخاف الموت»
شكل اولوبي بويناكسكي، وهو مؤسس التنظيم البلشفي في داغستان مطلع عام 1919، لجنة منطقية سرية للحزب البلشفي والمجلس العسكري في جمهورية داغستان، للعمل على تأسيس الجيش الأحمر المكون من ثمانية آلاف شخص، في ظروف العمل السري، والإطاحة بحكومة الثورة المضادة.
لكن جميع أعضاء تلك اللجنة، وعلى رأسهم بويناكسكي، اعتقلوا وأعدموا رمياً بالرصاص قبيل الإطاحة بالحرس الأبيض.
يقول في رسالة إلى حبيبته عام 1919: «عزيزتي تاتو: أكتب لك من عربة القطار في محطة بيتر، ربما سأعدم رمياً بالرصاص، ولكني لست خائفاً مطلقاً. أنا أحبك، ولن أكف عن احترامك لو للحظة، وسوف أحافظ دوماً على أكثر العلاقات مودة معك».
«فلسفة حمقاء»
توفي سيرغي تشيكماريوف، قائد الحركة الكولخوزية في جمهورية باشكيريا السوفييتية عن عمر ناهز 23 عاماً فقط بعد أن أطلق العنان للحركة الكولخوزية في الريف!
كتب له رفيقه فلاديمير رسالة يقول فيها: «أنت وحيد، ولديك حياة واحدة، فابحث لنفسك عن المزيد من السعادة، وأبذل جهدك حيثما كنت من أجل أن تكون حالك أفضل»، فرد عليه تشيكماريوف برسالة قصيرة يؤنبه فيها: «يستنتج من ذلك أنه لا مبرر لأي تفان وأي نكران ذات في سبيل مصالح الناس، أو من أجل المستقبل! فالشوك سينبت على قبرك من كل بد عندما سيحل ذلك الزمان. إن أخطر ما في هذا التفلسف الأحمق، يكمن في التمويه الماهر جداً للانتقال من المنطلقات الصائبة إلى الاستنتاجات الخاطئة تماماً، ويقترن ذلك بالتظاهر بالدفاع عن أعمق المصالح الجذرية العاطفية للفرد».
حكايات أسطورية..
اشتهرت الشاعرة الفرنسية آن ماري بوير بكونها من شاعرات المقاومة الفرنسية ضد النازية، كتبت في دفتر يومياتها قبيل استشهادها في حرب الأنصار عام 1944: «من أجل إنقاذ السماء الزرقاء، من أجل أن أنقذ حياة الشمس والشعب والأشجار، أموت اليوم دون أمل بالعودة».
كتبت هذه النماذج من أدب المراسلات من قلب المعارك التحررية الكبيرة في القرن العشرين، كتبها أناس قد يبدون أبطالاً أو من حكايات أسطورية، لكنهم في الحقيقة كانوا أناساً مثلنا.