معظم صالات الفن التشكيلي السورية في الخارج
سامر محمد إسماعيل سامر محمد إسماعيل

معظم صالات الفن التشكيلي السورية في الخارج

الطريق الممتد من قوس «باب شرقي» في اتجاه شارع الأمين، «حارة اليهود»، في دمشق القديمة، لا يزال يرفض تصديق تلك الهجرات المتتالية لفناني صالات التشكيل السورية وأصحابها، والتي أغلق معظمها منذ أكثر من ثلاث سنوات؛ فالحرب التي أتت على البشر والحجر والشجر، أكملت طريقها نحو محترفات الفن؛ آثار أقدامها يمكن اقتفاؤه في شارع الفن التشكيلي في البلدة القديمة؛ حيث تتربع غاليري «مصطفى علي» على زعامة المحترفات الفنية التي ما زالت صامدة هناك حتى الآن؛ هي محترفات كانت قبل الحرب موئلاً لعشرات بيوت الفن والفنانين؛ مراسم ومشاغل نحت وخزف ومصانع لصب قوالب الأعمال النحتية؛ إذ يأخذنا دهليز الحارة الشامية نحو محترف النحات عيسى ديب الذي يحضّر لمعرضه المقبل في بيروت؛ بينما نلمح بعده بخطوات باباً خشبياً مغلقاً لمشغل النحاتة السورية رولا بريجاوي.

الصالات التشكيلية التي غادرت مركز المدينة تركت هي الأخرى فراغاً كبيراً حيث أقفلت أبوابها في وجه زوارها وعشاق التشكيل السوري الذي شهد فورة كبيرة مطلع القرن الحالي. هكذا غادرت صالات «أيام»، «تجليات»، «الأتاسي»، «عشتار»، «آرت هاوس»... تاركة وراءها ذكريات تلك الأيام التي تصدّرت فيها الأعمال السورية بورصة أكثر من بينالي دولي؛ بينما أعلنت دار الأوبرا السورية مؤخراً افتتاح قاعة دائمة للمعارض في بهو الدار؛ كمحاولة من وزارة الثقافة لتعويض الفراغ الذي تركته الصالات الخاصة؛ دون أن تعلن عن نية الدار في ما إذا كانت ترغب في اقتناء الأعمال المعروضة أو أنها ستلاقي مصير مثيلاتها من الأعمال التي غالباً ما يتم زجها في المستودعات الرطبة لمديرية الفنون الجميلة بعد اقتنائها في معرضي الخريف والربيع السنويين!

لو طبق القانون
الناقد عمار حسن يحلل واقع صالات الفن في بلاده: «لو طُبق القانون المتعلق بالصالات التشكيلية لأغلقت جميعها الآن. ويضيف: «يمكن الحديث عن أمكنة تبيع اللوحات؛ ولكن الحديث عن صالات تشكيلية في سورية أمر غير متفق عليه بعد، عبر خبرتي في هذا المجال أي شخص بوسعه التسويق الجيد ونشر اسم الفنان هو الصالة المناسبة، ففكرة الصالات في الأساس تقوم على المكان؛ لكن المكان الذي لا يبيع من خلاله الفنان ويسهم بنقله إلى عوالم المزادات و(الآرت فير) والجولات السياحية الفنية هو مكان أو اسم لا يعول عليه، وإلا لكانت صالة (الرواق) - (الاتحاد التشكيلي السوري) من أهم الصالات في سورية؛ كونها تقع في قلب العاصمة، ولكانت صالة المركز الثقافي العربي في (أبو رمانه) ذاك الحي الراقي من أعرقها؛ لكون العديد من الأسماء السورية المهمة قد عرضت فيها في وقت من الأوقات».
إن الحرب التي تعيشها سورية، يعلق حسن «كشفت كل الأسماء، من الفنانين والصالات وحتى السماسرة الصغار؛ فالكل انتقل على الفور إلى الخارج ليمارس دور السمسرة الفنية؛ كلٌّ بحسب إمكاناته المالية وعلاقاته الشخصية».
الناقد سعد القاسم يرى أن مفهوم العرض التشكيلي في سورية ليس جديداً؛ إذ إنه يعود إلى منتصف القرن الماضي، غير أن هذا لم يكن يتم في صالات متخصصة، وإنما في المتحف الوطني بشكل أساسي، وفي بعض المدارس الكبيرة، والنوادي الثقافية الخاصة، وقد تم تطوير صالة المعارض في المتحف الوطني بدمشق لتستضيف المعارض الكبيرة، والهامة، وفي مقدمتها المعرض السنوي، فيما ضمت المراكز الثقافية الحكومية، وكذلك التابعة للسفارات الأجنبية صالات عرض صغيرة نسبياً رغم أهمية ما تعرض في أحيان كثيرة - أقفلت جميعها اليوم - أما الصالات الخاصة بمفهومها التخصصي فقد بدأت كحالات متفرقة نادرة في ستينيات القرن الماضي، ومن أهمها صالة الفن الحديث للفنان دعدوش، ثم شهدت انتشاراً كبيراً مع مطلع التسعينيات بحيث صارت ظاهرة لافتة للنظر». هذه (الفورة) لم تدم طويلاً فتحول كثير من الصالات الحديثة إلى محال تجارية، واستمرت في الميدان بضع صالات خاصة في دمشق، وأقل منها في حلب، وصالة واحدة في كل من اللاذقية والسويداء. كانت هذه الظاهرة وليدة الاهتمام المستجد باقتناء لوحات التشكيليين السوريين من قبل شريحة اجتماعية نامية، يعلق الناقد سعد القاسم ويضيف: «ولهذا لم تتمكن من الاستمرار في العمل سوى الصالات التي كان لأصحابها علاقات وثيقة مع المقتنين، ومع ذلك فإن هذه الصالات مثلت حالة ثقافية هامة لأنها أتاحت للجمهور مشاهدة أعمال فنانيه، على الأقل بالمقارنة مع تجار اللوحات الذين لا يشاهد أحد ماذا يشترون، وماذا يبيعون». لذلك عندما نقول صالة تشكيلية علينا أن نعرف مفهوم الصالة أولا، يعقب عمار حسن مجدداً، معرّفاً مفهوم الصالة التشكيلية بأنها «التي ترتبط بمشروع فني وفكري له جذور وارتباطات ما بالهوية الوطنية أو بالفن العالمي؛ وتستطيع على التوازي تقديم اللوحة والدراسة الأكاديمية المتعلقة بفنية اللوحة، وبالفن بالعموم، أي إن تلك الصالات التي تمتلك مشروعها إلى جانب رغبتها الأكيدة بالمردود المادي، لكن أي الصالات في سورية هي التي استطاعت أن تقدم هذا المشروع واستمرت على أرض الوطن أو خارجه». بالمقابل، هناك فنانون هاجروا مع صالات العرض إلى بيروت ودبي وباريس وبرلين، خصوصاً بعد أن تعرض قسم كبير منهم للتهديد المباشر، وهناك من تم إحراق مرسمه كما حدث مع الفنان أحمد معلا حين أُحرق مرسمه في بلدة قدسيا بريف دمشق. لكن عمار حسن يعقب مجدداً على واقع هؤلاء قائلاً: «نعرف ما يحدث للفنانين السوريين في الخارج؛ خصوصاً في لبنان، بحيث ان ما يحصل يندى له الجبين؛ إذ استحكمت بهم الصالات والأشخاص وصارت الشروط في العرض أكثر من صعبة بالمعنى المادي وبالمعنى السياسي؛ أي أن الفنان الذي ليس لديه انضواء تحت راية سياسية معينة لا يعرض له في بعض الأمكنة، باستثناء القليل من الرسامين، وهذا ينسحب على العديد من الرسامين في الخارج؛ فلو كان لدينا مشروع صالة حقيقية مرتبط بفهم وطني لاختلف الأمر كثيراً».
محاولات لم تنضج
مع مطلع القرن الجديد شهدت الحياة التشكيلية السورية ظاهرة جديدة، في دمشق تحديداً، تمثلت بالصالات العملاقة التي تمتلك قدرة مالية كبيرة، يقول الناقد سعد القاسم ويضيف: «سمحت الصالات الجديدة مع بزوغ الألفية الثالثة باحتكار نتاج عدد من التشكيليين المتميزين، وقد أدى ظهورها إلى تراجع دور، وحضور، الصالات السابقة التي خفتت حيويتها، خصوصاً بسبب قدرة تلك الصالات العملاقة على تسويق أعمال الفنانين السوريين في المحيط الإقليمي، وفي دول الخليج خاصة، مما أدى إلى رفع أثمان أعمال بعضهم بدرجة كبيرة». غير أن الأزمة التي عصفت بسورية من نحو أربع سنوات قد غيرت حال الجميع، فتوقفت صالات العرض بمجملها عن العمل، وأغلق بعضها الأبواب إلى زمن غير معلوم، وانتقل تسويق الأعمال الفنية السورية إلى الجوار اللبناني، وإلى بعض دول الخليج، فيما غابت المعارض بشكل شبه كلي عن الصالات الخاصة، عدا حالات نادرة ومبعثرة.
الصالات في سورية لم ترتقِ كمفهوم بالعموم إلى صالة حقيقية؛ إنها مجرد محاولات لم تنضج بعد؛ لا على المستوى الخاص ولا على المستوى الرسمي، يعلق الناقد حسن ويضيف: «لقد استوردنا كل المدارس والأواني والكانفس من الغرب باستثناء شيء واحد لم نعره أي اهتمام، وهو المعيار الذي على أساسه تحدد قيمة اللوحة الفنية وبالتالي سعرها، وهذا معمول به في الغرب». يوجد في سورية قانون للصالات التشكيلية؛ ولكنه لا يلحظ مشروعها والتزاماتها تجاه الثقافة والفن الوطني؛ لا سيما ان سورية من أعرق البلدان في مجال الفنون، فالقانون لم يلحظ ما يجب أن تقدمه للفن والفنانين مقابل أن تكون داراً للعرض بلا ضرائب.
باختصار لقد استفادت كل الصالات التشكيلية في سورية من هذه الفرص دون أن تقدم شيئاً للفن السوري، وما فعلته الحرب أنها كشفت ذلك.

 

المصدر: السفير