عودة الحياة إلى طبيعتها..

يصعب على أي مشاهد إحصاء كم التقارير الإخبارية المعروضة على بعض القنوات السورية الرسمية منها وغير الرسمية، والمعنونة بعودة الناس إلى حياتها الطبيعية، فبينما يصور لنا أحد هذه التقارير عدد الأشخاص العائدين إلى مناطقهم «المحررة»- يتجنب الإعلام السوري طبعاً في هذا التقرير ذكر عدد المرات التي تحررت فيها هذه المنطقة أو تلك الناحية- يغرق التقرير الآخر، وليس الأخير، في الاستمتاع بتكرار لقطات الشوارع المزدحمة وسط العاصمة دمشق في محاولة لجعل هذين المشهدين يختزلان الواقع وعنوانها عبارة «عودة الحياة إلى طبيعتها»...

«متل مانّا شايفين.. الحياة طبيعية» 

تبدو رواية «عودة الحياة إلى طبيعتها» امتداداً طبيعياً لمن حاول، وعلى مر سنوات الأزمة السورية، اختزالها بأحد عناصرها ألا وهو الإرهاب، ويصبح هذا العنصر بالتالي هو التجلي «الوحيد» لمظاهر الأزمة السورية، فيذهب بنا الإعلام ومن يقف خلفه هنا لاعتبار ما قبل سنوات الإرهاب هو نموذج كفؤ للحياة الطبيعية مختصراً إياها بـ «فقدان نعمة الأمن والأمان»..!

ليس الخلاف هنا على حجم أو أهمية عنصر «الإرهاب» وما يخلفه من نتائج كارثية على المجتمع السوري وعلى كافة الأصعدة، وليس الخلاف أيضاً على أهمية عنصر «الأمن والأمان» حتى بمعناه الضيق المستخدم من قبل الإعلام السوري نفسه، وإنما يكمن التساؤل الأساسي فيما إذا كان يصح اعتبار «الإرهاب» هو السبب الوحيد لغياب ضرورات الحياة الطبيعية..؟ وما إذا كان عنصر الأمن والأمان هو شرطاً كافياً للتعبير عن علاقة متوازنة بين المواطن والدولة والمجتمع..!؟ خاصةً وأن مفهوم الأمن والأمان تبعاً لأدبيات الإعلام السوري هنا، لا تتجاوز مفهوم «الحركة» المكانية والزمانية، أي الحركة بمعناها الفيزيائي الميكانيكي الضيق التي لا تصلح للتعبير عن الأمن المجتمعي بأبعاده الاقتصادية الاجتماعية المتشعبة والمتداخلة.

وتعتبر عبارة «والله كان السوري يرجع على بيته بعد الساعة 2 بالليل، ومايخاف من شي» هي أقصى ما يمكن أن يبلغه أحد المذيعين السوريين في معرض حديثه عن النتائج (الكارثية) للأزمة السورية».

وفق الرؤيا السابقة تناولت محطات الإعلام السوري وبعض صديقاتها في السلطة الرابعة مؤخراً قضية المصالحة في حمص القديمة،  فأصبح وقف العنف أو الاشتباك هو معادل لعودة الحياة إلى طبيعتها. صحيحٌ أن عودة الناس الفورية إلى أحيائهم «المهدمة» في غالبيتها هي إحدى درجات التعبير الحقيقي عن مدى توق السوريين للانتهاء من أزمتهم الخانقة،  كما أنها أيضاً تجسد قدرة السوريين على الاستمرار في الحياة وإن كانت من بين الركام، إلا أن التساؤل المشروع عن الأسباب التي تجعل من القنوات الإعلامية (التي أعلنت نفيرها لتغطية أحداث العودة الميمونة وتقاريرها المليئة بأسمى آيات الغزل في المواطن السوري ووقفته الصامدة ضد الإرهاب)، تتخلى عن هذا العائد بمجرد تجاوزه لمشارف تلك المنطقة المحررة لتتركه مستمتعاً بشروط الحياة الطبيعية بين كواليس الركام..!؟ 

أمن وأمان...

من البديهي أن تنخفض شروط الحياة وظروفها إلى أدنى درجاتها خلال الأزمات، كما قد تنحدر بالمقابل المتطلبات البشرية للمجتمع في سنوات «اللاأزمة» فتصل بذلك حاجة السوري إلى أدنى الدرجات تبعاً لهرم «ماسلو» أو غيره، ولكن هذه المسلمات لا تعني بالضرورة أن سورية ما قبل الأزمة، هي «سورية الرخاء والرفاه» بالنسبة للسوريين، فحسب البديهيات والمسلمات التي يتفق عليها الجميع دون استثناء بأن الأزمة نتيجة، وهي حتماً ليست نتيجة لسورية العدالة الاجتماعية والسياسية مثلاً، خاصةً وأن كل السوريين يعترفون بالأسباب التي أودت بنا إلى هذا المطاف، بمن فيهم أسياد السنوات العجاف في سورية اللبرلة والانفتاح، وبغض النظر عن مكان تواجدهم السياسي اليوم سواء أكانوا معارضة أم نظاماً، فمن كان يتوقع بأن يخرج علينا الدردري ليتحدث عن حجم الأذى الذي لحق بالسوريين من جراء ارتفاع معدلات الفقر مثلاً..!!.

 إن سورية ما قبل الأزمة وخاصةً خلال السنوات الأخيرة كانت سورية التفاوت الاقتصادي الطبقي والاجتماعي الثقافي. ورغم اختلاف شروط الحياة وظروفها باختلاف الشرائح الطبقية المكونة مازال الإعلام  السوري مصراً على أن يبقى متحدثاً رسمياً باسم إحدى تلك الشرائح لا غير، فالأزمة وإن كانت تختزل لدى البعض- القلة القليلة من السوريين- بأنها فقدان لحرية التنقل بمعناه السياحي الصرف، فهي تعني للبعض الآخر الكثير من الجوع والفقر والموت والعطش. والتعبير عن إحدى الحاجات دون الأخرى هو بالضرورة تعبير عن اصطفاف أو انحياز لهذه الشريحة أو تلك، فالأمن قبل أن يعني متعة التنقل فهو يشمل، بأبعاده الاقتصادية الاجتماعية، ماهو أبعد من ذلك، هو الأمن العسكري والسياسي بقدر ماهو الأمن الغذائي والمائي وأمان كل منهما...

يتفاوت حديث السلطات الإعلامية عن مصطلح «العودة»، العودة إلى ما قبل سنوات الأزمة، أو عودة المنطقة الفلانية إلى طبيعتها، أو ما يختزل تحت شعار عودة الأمن والأمان... وغيرها من العبارات التي تنطوي على نتيجة كارثية، تتمثل بعدم إيجاد حل جذري لأزمة اليوم، والإنهاء الشكلي لمظاهر الأزمة، لنبقى نحن السوريين في انتظار سيناريو الأزمة المقبل مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأزمات لا تعود بالقوة بذاتها ، وإنما تتكرر، ولكن بأسباب ونتائج مضاعفة.