«تلاقي.. وسيخ الكباب»..

«تلاقي.. وسيخ الكباب»..

تناولت «السندويشة» الصغيرة من يدي البائع، وهممت بأخذ القضمة الأولى، لذعتني رائحة «المخلل» الكريهة، توفقت قليلاً وبحثت بأصابعي عن قطعة اللحم التي يفترض أن تكون المكون الأساسي هنا، فلم أجد سوى لقمة صغيرة مغلفة بهباب أسود كريه، رميت ما بيدي على الفور وهممت بالخروج، لكن الإعلان الكبير على الواجهة استوقفني على الفور: «مبروك ..مبروك .. دخل مطعمنا اليوم موسوعة غينيس لأكبر سيخ شاورما في العالم..»، كان الإعلان بألوانه الباهتة وخطوطه الصاخبة يعود إلى عام على الأقل، بدا مقرفاً كما كانت تلك «السندويشة».

«أطول سيخ كباب» و«أكبر صحن تبولة» و«أضخم قرص فلافل» هي بعض من الإنجازات التي دخلت بها منطقتنا إلى موسوعة «غينيس» العالمية، ولا يعلم أحد سر هذا التعلق الكبير بكتاب الأرقام القياسية هذا، ربما لن يتحمس له أحد إن علمنا بأن «متحف غينيس للأرقام القياسية» لا يستقبل الكثير من الزوار، ومعظم رواده من أطفال الرحلات المدرسية، وهو ليس بالضخامة المعرفية التي نتصورها، لكنه اليوم أصبح حديث الساعة بعد أن قررت قناة «تلاقي» أن تدخل الموسوعة من أوسع أبوابها، وعن طريق «ماراثون» تلفزيوني امتد لأكثر من سبعين ساعة متواصلة!

«نريد إيصال رسالة للعالم، بأنّ سورية كانت وستبقى بلداً للمحبة، ومن هنا كان عنوان البث (من سورية مع الحبّ)»، هذا ما أعلنه مدير المحطة «ماهر الخولي» عند انطلاق الحدث، لتبدأ الساعات الطويلة لبرنامج قدّمته المذيعتان «أريج زيات» و«رين الميلع»، على أن تستضيفا أكثر من سبعين ضيفاً في الاستوديو من دون راحة، إلى جانب تناول الطعام وتعديل المظهر (شعر وماكياج) على الهواء مباشرة، لكن لجنة «غينيس» وضعت شروطاً عدّة للتحدي، وسمحت لفريق القناة بأخذ استراحة لمدّة خمس دقائق مقابل كلّ ساعة بثّ كاملة، وذلك بحضور جمهور مكوّن من عشرة أشخاص داخل الاستوديو طيلة ساعات البث. كما طلبت اللجنة تواجد عدد من الشهود لتوثيق العملية، للتعويض عن غياب المراقب الخاص من موسوعة «غينيس»، ذلك المراقب الذي بدأ بقياس ساعات البث بالدقيقة والساعة كما قام بقياس سيخ الكباب سابقاً بالمتر والسنتيمتر!

 

«ضيف ثقيل..!»

لاقت المحاولة تلك الكثير من ردود الأفعال، فرحب بها الكثير من متابعي القناة على أنها «محاولة أولى» للخروج عن النمط التقليدي لبرامج التلفزيون السوري، كما رأى فيها الكثير من المنتقدين محاولة جادة لكسر الفجوة مع الجمهور وإزالة سنوات من الفوقية المنفرة التي تعامل بها الإعلام مع الجمهور السوري ككل، لكن متابعة ساعة وحدة من السبعين تلك كانت كافية لغسل جميع تلك «المظاهر الإيجابية» على الفور، وسرعان ما سيلاحظ المشاهد بأن شيئاً لم يتغير، فعلى الرغم من محاولة المعدين والمشرفين إضفاء بعض الحيوية على الحدث من خلال إظهار ما يحدث عادة في كواليس البرامج، كتناول المذيعات لوجباتهن، والتهيئة للظهور أمام الكاميرات مع دخول وخروج فنيي الماكياج بشكل اعتيادي، إلا أن الجو الرمادي الرتيب الذي يتميز به أعلامنا بقي حاضراً، وكأنه قد «جلس» ضيفاً دائماً أمام العدسة مع سبعين آخرين استقبلتهن القناة طوال ساعات «الماراثون»، مجموعة معتادة من الضيوف، بعض الوزراء، كوزير الكهرباء الذي أطلق حضوره موجة أخرى من التعليقات، كونه قد أصبح بطل الصفحات الفيسبوكية هذه الأيام نتيجة التقنين المتكرر، خبيرة تغذية مع وجبة الإفطار، خبيرة ماكياج مع فقرة تعديل الماكياج، مخرج مسرحي، أخصائية في «البرمجة اللغوية والعصبية»، فنانون ومغنون كـ«علي الديك» و«صباح فخري» يرافقه ابنه، ذلك اللقاء الركيك الذي أثار موجة أخرى من الأحاديث، دون أن ننسى الفواصل الغنائية المملة الممزوجة بالتقارير الجامدة، لتعود الكاميرات كل حين إلى خلفية نافرة يتداخل فيها شعار القناة مع شعار البرنامج وكأن الأمر كله قد استغرق عدة دقائق من التحضير!

 

الإعلام.. مسؤولية اجتماعية

مرت الساعات الطوال وانتهى «المارثون» باحتفال كبير، دخل البرنامج كتاب «غينيس» للأرقام القياسية على صعيدَين: «أطول ماراثون لتقديم برنامج حواري» و«أطول ماراثون لإخراج برنامج حواري»، لكن سيل التعليقات لم يتوقف، في وقت يعاني فيه الكثيرون من شح المياه ونقص موارد العيش وانقطاع دائم للكهرباء، وكأن أحداً يستطيع حضور السبعين ساعة كاملة، هو إنجاز للقناة بلا شك لكنه على حساب الاهتمام بمسؤولياتها الاجتماعية، وهذا كاف لتوسيع الهوة بين القناة والجمهور، القناة التي تحمل اسماً مميزاً يحتاج أن يتمثل به جميع السوريين، والتي تستند على كادر شبابي «طازج» يحتاج إلى انتشاله على الفور من دوامة الرتابة إعلامنا التقليدي، عليها أن تكون اليوم مشروع خطاب عصري منفتح يراد منه الوصول إلى عقل وقلب المتابع المنهك من أوزار الحرب، بدلاً من أن تقيس ساعات فارغة تريد من خلالها أن تتجاهل كل ذلك الحقد المتراكم و«تنشر المحبة في كل مكان» وكأننا في عالم آخر تماماً، هذا النوع من الاستفزاز يكفي لأن يتحول مثل هذا الإنجاز التلفزيوني التقني إلى خيال باهت يدفع المشاهد إلى إطفاء التلفاز على الفور.