فريد بلكاهية.. رحيل الرائد الذي زاوج بين الخصوصية والعالمية
عبد الرحيم الخصار عبد الرحيم الخصار

فريد بلكاهية.. رحيل الرائد الذي زاوج بين الخصوصية والعالمية

خرج فريد بلكاهية من ورشته الفنية تاركاً لوحاته وأصباغه وأدواته كتذكار لعقود من الإبداع والتجديد والتجريب والسعي إلى رفع الفن التشكيلي بالمغرب نحو سقف العالمية. فقد توفي هذا الرائد الكبير مساء الخميس عن عمر يقارب الثمانين سنة، بعد أن راكم خبرة هائلة جعلته من أبرز التشكيليين اليوم في العالم العربي.

دخل الراحل ورشة التشكيل منذ الخامسة عشرة، وبدأ يرسم بورتريهات بالصباغة الزيتية، وقد تأثر بثقافة والده الفرنسية الذي سبق أن اشتغل مترجماً. وسيتعمق هذا التأثير حين التحق الشاب في عامه التاسع عشر بمدرسة الفنون الجميلة بالعاصمة الفرنسية باريس، وبعدها بأربع سنوات وبدافع البحث عن أساليب فنية مغايرة لما يتداول في عاصمة الأنوار سيسافر إلى تشيكوسلوفاكيا سنة 1959 ليدرس السينوغرافيا بأكاديمية براغ.

وعقب عودته إلى المغرب مطلع الستينيات سيتولى إدارة مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، وبقدر ميله إلى تيارات الحداثة التي كانت تملأ أوروبا آنذاك، حاول في إشرافه على الدرس التشكيلي بمدرسة الفنون الجميلة أن يعود إلى التراث المغربي، ليستلهم منه ما يختلف عما هو رائج في عواصم الفن عبر العالم، لذلك فتح ورشات تبحث في تاريخ الصناعة التقليدية بالمغرب التي تتقاطع مع الفن التشكيلي كصناعة الزرابي والحلي والخزف والخشب. وقد استقدم ضمن فريق التدريس نخبة من الفنانين يتقاسمون معه حماسه للتراث الشعبي كالمغربيين محمد شبعة ومحمد المليحي، والإيطالية طوني مارايني، والهولندي بيرت فلين.

في نهاية الستينيات سيقترح برفقة المليحي وشبعة الخروج بالفن التشكيلي إلى الناس بعيداً عن الصالات والأروقة، فأقام الثلاثة معرضاً جماعياً مفتوحاً بساحة جامع الفنا بمراكش، واختاروا أن يسموه "المعرض الواضح"، وأعادوا التجربة في السنة ذاتها بـ"ساحة 16 نوفمبر" بالدار البيضاء.

ولأنه كان مشغولا بالتجديد، فقد قرر بعد اثنتي عشرة سنة، شغل فيها منصب مدير مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، أن يتجه إلى إيطاليا ليواصل تعلمه في أكاديمية بريرا بميلانو، ولم يتوقف الرجل عن الترحال طوال حياته، فقد عاش محطات فنية مختلفة ما بين أميركا، الصين، كوريا، أميركا اللاتينية، السنغال، النيجر، وغيرها من البلدان التي كان يستقر فيها لفترة طويلة، باحثاً عما يملأ لوحاته بشكل مختلف ومغاير، فروح المغايرة كانت هاجسه الدائم هو الذي انتقل في مساره الطويل عبر مدارس متنوعة.

لكن أهم ما يسم تجربة فريد بلكاهية هو هذا التصوف الفني الذي يغلف ويبطن أعماله، وذلك التعقب الدائم للنقاط المضيئة في تاريخ التراث الإنساني. قال عنه الشاعر صلاح ستيتية: "فريد بلكاهية فنان مجدد، في مختبره الشخصي والسري ينحت الخصوصية والعالمية، منصت للأصول الأفريقية، للطرقية والرقص الصوفي اللذين يخترقان فضاءات الصمت والخلاء والبرية المفتوحة على نوتات الكون".

اشتغل بداية على الورق، ثم انتبه باكراً إلى مواد أخرى يبدو أنها ستسعفه أكثر كالجلد والنحاس، وتوجه أيضاً إلى النحت. وبقدر احتفائه بالمواد والعناصر التي تحيل على التراث العربي احتفى أيضاً بوجوه معروفة تمثل رموزاً كبرى في هذا التراث، كابن بطوطة والشريف الإدريسي، إلى جانب مثقفين من عيار غاستون باشلار وسان جون بيرس. وكان الاحتفاء بهذه الأسماء وغيرها عبر أعمال فنية ومعارض متخصصة. كما أصدر أعمالا مشتركة مع عدد من الشعراء كأدونيس، وصلاح ستيتية، وعبد الوهاب مؤدب، وإتيل عدنان، وجان كلارانس ونيكول دو بونتشارا، ورجاء بنشمسي رفيقة دربه.

أقام معارض في عدد كبير من البلدان، وشارك في تظاهرات مختلفة أقامتها مؤسسات دولية كمتحف الفن الحديث في جوهانسبورغ، دار الثقافة العالمية في برلين، معهد العالم العربي بباريس، بينالي دي ساو باولو في البرازيل، غاليري تيت ليفربول ببريطانيا، فضلا عن العديد من المشاركات بالعواصم العربية والأفريقية.

 

المصدر: السفير