الركود المزمن: تشخيص الأزمة الهيكلية في الرأسمالية
عودة شبح الركود المزمن
شهدت السنوات الأخيرة عودة مفهوم «الركود المزمن» (Secular Stagnation) إلى الواجهة في الخطاب الاقتصادي السائد، بعد أن ظل لعقود حكراً على الاقتصاديين الماركسيين والمفكرين النقديين. فبعد الأزمة المالية العالمية 2008، والتباطؤ المستمر في معدلات النمو، وتراجع فعالية السياسات النقدية التقليدية، اضطر اقتصاديون بارزون، مثل: لورنس سمرز إلى إحياء هذا المفهوم الذي كان ألفين هانسن قد صاغه أولاً في ثلاثينيات القرن العشرين، ثم طوره بول باران وبول سويزي في إطار تحليلي ماركسي. تؤكد هذه العودة أن الرأسمالية تواجه أزمة هيكلية عميقة لا يمكن معالجتها بوسائل السياسات التقليدية، مما يثبت راهنية التحليل الماركسي للنظام الرأسمالي وتناقضاته الداخلية.
الجذور التاريخية والتحليل الماركسي للركود
تعود الجذور الفكرية لمفهوم الركود المزمن إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حين لاحظ ألفين هانسن أن تباطؤ النمو السكاني، وتراجع التوسع الجغرافي، وطبيعة الابتكارات التكنولوجية، أدت إلى تراجع الطلب على الاستثمار، مما يُحوّل قدرة النظام الكبيرة على الادخار إلى قوة مولدة للركود بدلاً من محفزة للنمو.
لكن بول باران وبول سويزي قدما في كتابهما «رأس المال الاحتكاري» (1966) تحليلاً أكثر شمولية، مشيرين إلى أن الاقتصاد المسيطر عليه من قبل الشركات العملاقة يتسم باستمرار بميل نحو الركود المزمن. وقد استشهدا بالكساد العظيم في الثلاثينيات كدليل على ذلك، وأكداً أن عوامل مؤقتة، مثل: التسلُّح والحروب في كوريا وفيتنام كانت مجرد عوامل معاكسة تخفي الميل الأساسي للاقتصاد نحو الركود.
تجليات الركود المزمن في الرأسمالية المعاصرة:
تباطؤ النمو وانخفاض أسعار الفائدة
يشير لورنس سمرز إلى أن الاقتصادات الصناعية تشهد منذ سنوات تباطؤاً مزمناً في النمو، مع انخفاض مستمر في أسعار الفائدة الحقيقية رغم زيادة عجز الموازنات. ففي الولايات المتحدة، لم يشهد الاقتصاد أي تعافٍ حقيقي منذ 2007، حيث أن الفجوة في الناتج المحلي الإجمالي لم تُغلق، بل تم تخفيض التوقعات بشأن الإمكانات المستقبلية للنمو.
اختلال التوازن بين الادخار والاستثمار
يكمن السبب الجوهري للركود المزمن في الاختلال الهيكلي بين العرض والطلب على الأموال. فمن ناحية، ارتفع معدل الادخار بسبب توزيع الدخل غير المتكافئ (حيث يزيد الأغنياء من معدلات ادخارهم)، والأرباح الشركاتية المرتفعة، وزيادة عدم اليقين بشأن المعاشات التقاعدية. ومن ناحية أخرى، تراجع الطلب على الاستثمار بسبب:
التباطؤ في النمو السكاني وتقدم سن السكان
انخفاض الأسعار النسبية للسلع الرأسمالية، خاصة في مجال تكنولوجيا المعلومات.
ثورة المعلومات التي قللت الحاجة للاستثمار في البنية التحتية المادية.
انتشار اقتصاد المشاركة الذي يقلل الحاجة للملكية الخاصة.
فشل السياسات النقدية التقليدية
أظهرت السياسات النقدية غير التقليدية، التي تشمل التيسير الكمي وأسعار الفائدة الصفرية أو السلبية، محدودية كبيرة في مواجهة الركود المزمن. فحتى مع هذه السياسات التوسعية القصوى، استمر التضخم دون المستوى المستهدف، وظل النمو ضعيفاً.
الركود المزمن والتحليل الأزمات تناقض أساسي في الرأسمالية
يعكس الركود المزمن التناقض الأساسي في الرأسمالية، بين القدرة على الإنتاج والحاجة إلى تحقيق الأرباح. فكما أشار جوزيف شتايندل في دراسته «النضوج والركود في الرأسمالية الأمريكية» (1952)، تواجه الرأسمالية نضجاً يؤدي إلى تباطؤ طويل الأجل.
دور الاحتكارات وتركز رأس المال
بحسب تحليل باران وسويزي، تؤدي هيمنة الشركات العملاقة إلى تفاقم الميل نحو الركود، حيث تتفادى هذه الشركات المنافسة السعرية التقليدية، مما يحد من فرص الاستثمار الجديدة.
الأزمات الدورية كنمطٍ مُستمر
يؤكد الماركسيون: أن الأزمات ليست حوادث عابرة في الرأسمالية، بل هي جزء جوهري من طبيعتها. فكما يشير خوسيه تابيا في كتابه «الأزمات الست للاقتصاد العالمي»، شهدت الرأسمالية ست أزمات كبرى منذ سبعينيات القرن العشرين، مما يدحض ادعاءات التيار السائد حول قدرة السوق على تنظيم نفسه.
جدول يوضح تطور مفهوم الركود المزمن في الفكر الاقتصادي:

راهنية الفكر الماركسي في تشخيص الركود المزمن
صحة التنبؤات الماركسية
أثبتت التطورات الاقتصادية منذ الأزمة المالية 2008 راهنية التحليل الماركسي. فكما أشار آلان وودز، لم تكن أفكار ماركس أبداً أكثر راهنية مما هي عليه اليوم، وهذا يظهر في التعطش الكبير للنظرية الماركسية الذي نشهده حالياً.
اعترافات غير متوقعة
حتى بعض الاقتصاديين والمؤسسات البرجوازية اضطرت إلى الاعتراف بصحة بعض عناصر التحليل الماركسي. فجورج ماجنوس، المحلل الاقتصادي البارز في بنك UBS، دعا في مقال له إلى «إعطاء كارل ماركس فرصة لإنقاذ الاقتصاد العالمي»، معترفاً أن عملية سعي الشركات لتحقيق الأرباح تؤدي إلى خلق «جيش صناعي احتياطي» من الفقراء والعاطلين عن العمل.
محدودية حلول التيار السائد
أظهرت السياسات التقليدية عجزاً واضحاً عن معالجة الأزمة الهيكلية. فكما لاحظ نورييل روبيني، تدخل الرأسمالية في حلقة مفرغة، حيث فائض الإنتاج، وانخفاض الطلب، وارتفاع الديونـ تولد انعدام الثقة بين المستثمرين.
نحو فهم أعمق لأزمات الرأسمالية
يشكل انتشار مفهوم الركود المزمن في الخطاب الاقتصادي السائد اعترافاً ضمنياً بصحة النقد الماركسي للرأسمالية. فالأزمة ليست عابرة أو ناتجة عن صدمات خارجية، بل هي نتاج التناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي نفسه. وإن كان لورنس سمرز وغيره من اقتصادي التيار السائد قد «اكتشفوا» الركود المزمن مؤخراً، فإن الاقتصاديين الماركسيين كانوا قد حذروا منه منذ عقود.
في الختام، يمكن القول: إن تحدي الركود المزمن يتطلب أكثر من مجرد تعديلات في السياسات النقدية أو المالية، بل يتطلب إعادة النظر في طبيعة النظام الاقتصادي نفسه. فالرأسمالية، كما تنبأ ماركس، تحمل في داخلها بذور أزماتها المتكررة، والركود المزمن هو أحد تجليات هذه الأزمة الهيكلية. فقط من خلال فهم هذه الجذور العميقة يمكن تطوير حلول جذرية لتحديات عصرنا الاقتصادية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1250