«السقف» الأمريكي يعيق نمو الاقتصاد الصناعي المكسيكي
ابتداءً من الثاني من نيسان، تفرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية إضافية بنسبة 25% على السيارات المستوردة وقطع الغيار الأساسية، وتشمل هذه الرسوم المحركات وناقلات الحركة والمكونات الإلكترونية وغيرها من الأجزاء المحورية. وباعتبارها أكبر دولة مورّدة للسيارات إلى الولايات المتحدة، فإن المكسيك ستكون أول من يتأثر بهذه الرسوم.
ترجمة: أوديت الحسين
تشير البيانات إلى أنّ المكسيك صدَّرتْ إلى الولايات المتحدة 2.8 مليون سيارة في عام 2024، وهو ما يمثل 69.5% من إجمالي إنتاجها، ويشكل ما يقرب من 20% من واردات السيارات الأمريكية. وما يستحق المزيد من الانتباه هو أن قيمة صادرات المكسيك من قطع غيار السيارات إلى الولايات المتحدة بلغت 40.89 مليار دولار، أي ما يمثل 40% من السوق الأمريكية للمنتجات نفسها. أما المصانع التجميعية التابعة لشركات السيارات العالمية مثل جنرال موتورز ونيسان في المكسيك، فإن 80% من إنتاجها مخصص مباشرة للسوق الأمريكية.
وبمجرد دخول الرسوم الجديدة حيز التنفيذ، سيؤدي ذلك إلى رفع تكلفة إنتاج السيارات العابرة للحدود بنحو 4000 دولار لكل سيارة، وقد تزداد تكلفة إنتاج السيارات الكهربائية المصنعة في الولايات المتحدة بمقدار 12000 دولار لكل سيارة.
وعلى الرغم من أن الحكومة المكسيكية تبذل قصارى جهدها للتفاوض على استثناء من هذه الرسوم، إلا أن الهدف الحقيقي لترامب يتجاوز بكثير المصالح الاقتصادية قصيرة الأجل. من مطالبته للمكسيك بالتعاون في مراقبة الهجرة إلى الضغط على مكافحة الجماعات الإجرامية، ومن التهديد بإعادة الصناعات إلى الأراضي الأمريكية إلى محاولات تفكيك التعاون الاقتصادي الصيني-المكسيكي، تستخدم الولايات المتحدة الرسوم الجمركية كرافعة لدفع المكسيك تدريجياً إلى فخ «التبعية الاقتصادية».
إعادة كتابة النظام
تمر منظومة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية بتحولات غير مسبوقة. فالاتفاقية المعروفة «باتفاق الولايات المتحدة والمكسيك وكندا USMCA» التي صُممت في الأصل لتعزيز التكامل الإقليمي، جرى التلاعب ببنودها الأساسية بشكل علني من قبل إدارة ترامب. وتنص الاتفاقية على أنه لكي تُعفى السيارات من الرسوم الجمركية، يجب أن تتكون من 62.5% إلى 75% من مكونات مصنوعة في أمريكا الشمالية، إلا أن التطبيق العملي حوّل هذا الشرط إلى ما يعني «صُنع في أمريكا» فقط.
وقد أدى هذا التلاعب في القواعد إلى ثلاث موجات من التأثير: أولاً، تم تقويض قيمة سلسلة التوريد المحلية المكسيكية بشكل منهجي. وحتى إذا استثمرت الشركات المكسيكية مبالغ طائلة لزيادة نسبة المكونات المحلية، فإن المنتجات التي لا تُصنّع في الولايات المتحدة ستظل تواجه رسوماً جمركية بنسبة 25% عند دخولها السوق الأمريكية.
ثانياً، أتاح هذا الوضع لمورّدي قطع الغيار الأمريكيين تكوين ميزة احتكارية. فإذا رغبت شركات السيارات في تجنب الارتفاع الكبير في التكاليف، ستضطر إلى شراء المنتجات الأمريكية أولاً، مما يؤدي إلى تحوّل المصانع المكسيكية تدريجياً إلى مجرد ورش تجميع منخفضة المستوى.
ثالثاً، أصبح حلم التكامل الاقتصادي الإقليمي في أمريكا الشمالية، الذي بُني على مدى أجيال، مهدداً بالزوال. فقد تدهور «USMCA» من إطار تجاري ثلاثي يهدف إلى تحقيق مكاسب مشتركة، إلى أداة تُستخدم من طرف الولايات المتحدة لتحقيق مصالحها الخاصة فقط.
وما يزيد من سخرية الموقف هو أن وزيرة الاقتصاد المكسيكية صرّحت بأن 90% من السيارات المصدرة من المكسيك إلى الولايات المتحدة تستوفي فعلياً شرط الـ75% من المكونات المنتجة في أمريكا الشمالية، كما تنص الاتفاقية. إلا أنه، وفقاً للقواعد الجديدة، فإن الإعفاء من الرسوم لا يشمل سوى المكونات المصنّعة في الولايات المتحدة، في حين تُفرض الرسوم على الأجزاء المصنعة في المكسيك.
وقد خلقت هذه الهندسة الجديدة للنظام مفارقة غريبة: كلما نجحت المكسيك في تحسين صناعاتها، زادت نسبة المنتجات المصدّرة التي تُفرض عليها الرسوم. وبالتالي، يواجه «برنامج المكسيك»، الذي عملت عليه حكومتان مكسيكيتان متعاقبتان لتعزيز نسبة المكونات المحلية في سلاسل الإنتاج، أزمة كبيرة.
فخ التبعية
سياسة الرسوم الجمركية التي يتبعها ترامب ليست مجرد سياسة حمائية تجارية بسيطة، بل تُعدّ بمثابة «عملية جراحية دقيقة» تستهدف سلسلة الصناعات المكسيكية للسيارات، وقد وصلت آثارها إلى أدق الشعيرات في بنية الصناعة.
تستخدم الولايات المتحدة الرسوم الجمركية على مستوى سلاسل التوريد، كقيد يُجبر المكسيك على قبول دور «التابع الاقتصادي». لمواجهة ضغط التكاليف، اضطرت شركات مثل جنرال موتورز وفورد إلى تقليص مشترياتها من المكونات المكسيكية، ونقل الأجزاء ذات القيمة المضافة العالية إلى داخل الولايات المتحدة.
خذ على سبيل المثال شركة Nemak المكسيكية العملاقة في تصنيع قطع السيارات، والتي تستحوذ على أكثر من 40% من الحصة العالمية في إنتاج رؤوس الأسطوانات المصنوعة من سبائك الألمنيوم. وفقاً للسياسة الجديدة، بدأت الشركات الأمريكية تطلب منها إنشاء خطوط إنتاج جديدة داخل الولايات المتحدة، مما أدى إلى تمزق سلاسل التوريد التي بنتها المكسيك بجهد كبير على مدى سنوات.
وعلى مستوى السياسات الصناعية، تلقى طموح المكسيك للتصنيع المحلي ضربة قاسية. فقد كان «برنامج المكسيك»، الذي روّج له الرئيس السابق لوبيز أوبرادور، يهدف إلى بناء سلسلة صناعية مستقلة، إلا أنّ القواعد الجديدة ربطت بين «الصناعة المحلية» و«فرض الضرائب». فالمصنع المكسيكي الذي يستخدم بطاريات أو محركات كهربائية محلية الصنع، قد يدفع تكلفة جمركية أعلى على السيارة بأكملها.
وفي ظل هذه الحوافز المشوهة، لا تزداد صادرات صناعة السيارات المكسيكية اعتماداً على السوق الأمريكية فحسب، بل أصبحت سلاسل الإنتاج والتوريد فيها أيضاً أكثر اعتماداً على المنتجات الأمريكية. ويبدو أن صناعة السيارات المكسيكية محكوم عليها بالبقاء في الحلقة الأدنى من سلسلة القيمة، لتتحول إلى «ورشة تجميع» تابعة لرأس المال العابر للحدود في الولايات المتحدة.
وفيما يخص جذب الاستثمارات الأجنبية، فإن الميزة الجغرافية التي تتمتع بها المكسيك بدأت تتلاشى. فشركات صينية مثل CATL وBYD كانت تنظر إلى المكسيك كبوابة استراتيجية لدخول السوق الأمريكية، لكن السياسة الجمركية الجديدة قلّلت بشدة من هذه القيمة. ويُظهر تحليل الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المكسيك أنه رغم استمرار ارتفاع إجمالي الاستثمارات في عامي 2023 و2024، إلا أن معدل النمو السنوي بدأ بالتراجع، من 18.8% و8.3% في عامي 2021 و2022 على التوالي، إلى 0.4% و1.1% فقط.
والأكثر أهمية أن نسبة الاستثمارات الجديدة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة انخفضت عاماً بعد عام، حيث لم تمثل سوى 8.6% في عام 2024، في حين أن 77.9% منها كانت عبارة عن إعادة استثمار لأرباح الشركات القائمة. ويعكس هذا الاتجاه المتمثل في «الحفاظ على المخزون وتراجع النمو» الشكوك المتزايدة لدى رأس المال الدولي بشأن البيئة الاستثمارية في المكسيك في ظل تهديدات ترامب المستمرة بفرض رسوم جمركية.
لكن رغم أن عصا ترامب الجمركية تبدو موجَّهة نحو العالَم بأسره، فإنّ هدفها الحقيقي هو الصين. فهذه المواجهة التجارية تخفي وراءها صراعاً خفيّاً للهيمنة على النظام الاقتصادي العالَمي. بدأت الولايات المتحدة تضغط على المكسيك لفصل نفسها عن الصين، مطالبةً إياها بأن «ترسم الخطوط الفاصلة» بين الجانبين.
ما تكشفه معاناة المكسيك تحت ضربات «العصا الجمركية» لترامب هو الآتي: النموذج القائم على الاعتماد على سوق واحدة قد أصبح نقطة ضعف قاتلة في عصر تراجع العولمة. والطريق الوحيد لمواجهة قنص الهيمنة بالقواعد هو بناء سلسلة قيمة عالمية مرنة ومتنوعة.
إن سياسة الرسوم التي ينتهجها ترامب ليست حادثة معزولة، بل تمثل انفجاراً مكثفاً لأزمة دورية تعيشها الرأسمالية. فعندما تتوقف الولايات المتحدة عن تقبّل توزيع أرباح العولمة، وتبدأ في استخدام القوة لإعادة تشكيل النظام الاقتصادي، فإن ما تواجهه الدول النامية لا يقتصر على تحديات التحول الصناعي، بل يشمل أيضاً خياراً حضارياً عميقاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1221