دروس من العالم لسورية الجديدة: العدالة الاجتماعية شرط النمو الاقتصادي
بعد سقوط سلطة بشار الأسد، يواجه السوريون تحدياً تاريخياً يتمثل في إعادة بناء بلادهم، ليس فقط على مستوى البنية التحتية والمؤسسات، بل وأيضاً عبر بناء نظام اقتصادي يعبر عن تطلعاتهم التي جرى قمعها لعقود، تطلعاتهم بنموذج اقتصادي موجَّه لخدمة المجتمع ككل، وليس لمصلحة نخب فاسدة كما كان الحال في ظل السلطة السابقة. ويطرح هذا التوجه تساؤلات جوهرية حول طبيعة النموذج الاقتصادي المطلوب ومحدداته، وبشكلٍ خاص الآليات الكفيلة بتحقيق النمو الاقتصادي الضروري في سورية، مع استلهام الدروس من تجارب الدول التي نجحت، بعد معاناة من الحروب والدمار الاقتصادي، في بناء اقتصادات وطنية قوية مكّنتها من تحسين مستوى معيشة شعوبها وضمان حياة كريمة لهم.
في المقال السابق، سلطنا الضوء على النسبة المتواضعة التي توقعتها حكومة تصريف الأعمال المؤقتة لنمو الاقتصاد السوري في عام 2025، والتي لا تتجاوز 1%، واعتبرنا أنها غير منطقية وغير كافية لإعادة إعمار البلاد بعد 14 عاماً من الحرب والدمار. وأكدنا أن النمو الاقتصادي الحقيقي يتطلب القضاء على الفساد والنهب، ورفع عائدية الاستثمارات، والاستفادة من الميزات المطلقة التي تمتلكها سورية، بدلاً من الارتهان إلى تصدير المواد الخام.
في هذا المقال، ننتقل إلى نقاش مسألة جوهرية أخرى ترتبط بالعلاقة بين العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي المطلوب في سورية. وهل يمكن تحقيق نمو اقتصادي حقيقي ومستدام دون حل مشكلة العدالة الاجتماعية؟ وما هي الأسس التي يجب أن يرتكز عليها النمو الاقتصادي السوري إذا أردنا الابتعاد عن تجارب الدول التي حققت بالفعل طفرات في النمو الاقتصادي في سنواتٍ محددة، ثم سرعان ما عادت للوراء بسبب فقدان الأرضية الثابتة لضمان النمو المستمر؟
هل النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية ضدان متناقضان؟
لطالما طُرحت العلاقة بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وكأنها علاقة تناقضية عكسية، حيث يُروَّج لفكرة أن تحقيق العدالة الاجتماعية يعني بالضرورة إبطاء النمو الاقتصادي أو التضحية به، وأن تحقيق النمو يشترط بالضرورة حالة اللاعدالة في توزيع الثروة. لكن التجربة التاريخية، خاصة في الدول التي نجحت في تحقيق معدلات نمو مرتفعة ومستدامة، تثبت العكس تماماً: فالعدالة الاجتماعية، وبشكلٍ أساسي عدالة توزيع الثروة، ليست عائقاً أمام النمو، بل على العكس، هي شرط أساسي له.
يؤدي سوء توزيع الثروة بطبيعة الحال إلى اقتصادٍ غير متوازن، تتركز موارده وثرواته في أيدي قلة من الأثرياء الذين يوجِّهون إنفاقهم عموماً نحو السلع والخدمات المستوردة، مما يؤدي إلى تسرب الأموال نحو الخارج بدلاً من استثمارها في مشاريع إنتاجية تخلق فرص العمل وترفع مستوى المعيشة لعموم السوريين. وفي المقابل، عندما تكون الثروة موزعة بشكل أكثر عدالة، يزداد الطلب على السلع والخدمات المحلية، مما يدفع عجلة الإنتاج ويساهم في تنشيط السوق الداخلي، وبالتالي تحقيق نمو أكثر استدامة.
إضافة إلى ذلك، وهي المسألة التي يتجاهلها كثيرون، فالفجوة الواسعة في توزيع الثروة ليست مجرد مسألة اقتصادية، بل هي عامل رئيسي في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فكلما زادت الفوارق الطبقية وشعر المواطنون بالحرمان والتهميش، ارتفعت احتمالات الاضطرابات الاجتماعية، مما يؤدي إلى بيئة غير مستقرة تعرقل النمو طويل الأمد. ولعل تجربة العديد من الدول النامية خير دليل على أن تركز الثروة في يد قلة من السكان، وحرمان الأغلبية من الاستفادة من عائدات النمو، غالباً ما يؤدي إلى فشل اقتصادي مزمن.
وأي نموذج اقتصادي يسعى إلى تحقيق نمو حقيقي ومستدام في سورية لا يمكن أن يتجاهل ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا يتطلب إعادة النظر في العلاقة المختلة بين الأجور والأرباح، وضمان توزيع أكثر عدالة للدخل والثروة، إلى جانب تبني سياسات اقتصادية تحد من الاستغلال والاحتكار، وتعمل على إعادة توجيه الموارد نحو الاستثمار في قطاعات الإنتاج الحقيقي. كما لا يمكن تحقيق أي نمو اقتصادي جاد دون القضاء على الفساد الكبير الذي أدى إلى نهب ثروات البلاد، وساهم في خلق اقتصاد موجّه لخدمة نخب الفساد وأصحاب الربح الكبير بدلاً من خدمة السوريين أبناء الـ90% القابعين تحت خط الفقر.
وبالتالي، فإن العدالة الاجتماعية ليست مجرد هدف أخلاقي أو شعار سياسي، بل هي الضمانة الحقيقية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام يخدم مصالح الأغلبية، وليس فقط فئة محدودة من رجال الأعمال والمستثمرين. وأي نظام اقتصادي لا يأخذ بالحسبان ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية سيفقد مبرر وجوده مع مرور الوقت، لأن الابتعاد عنها لن يؤدي فقط إلى مزيد من التناقض الطبقي، بل سيحول دون تحقيق أي نمو اقتصادي حقيقي وراسخ.
حتى أعداء العدالة الاجتماعية لا يستطيعون إنكار الحقيقة
عندما نتحدث عن العدالة الاجتماعية أنها شرط لازم للنمو الاقتصادي المستدام، من السهل اتهامنا بأننا ننطلق بتحليلنا هذا من قناعات أيديولوجية ما، دون أخذ الحقائق بعين الاعتبار. ولهذا، يبدو من المناسب أن نتوقف هنا، ونحيل القارئ إلى جهة أخرى لا يمكن اتهامها إطلاقاً بأنها مناصرة للعدالة الاجتماعية، وهي صندوق النقد الدولي.
في مذكرة المناقشة الصادرة عام 2011 عن صندوق النقد بعنوان «عدم المساواة والنمو غير المستدام: وجهان لعملة واحدة؟»، وصل معدّاها أندرو بيرغ وجوناثان أوستري إلى نتائج حاسمة، منها أن الدول ذات التوزيع العادل للثروة تحقق في المتوسط فترات نمو تدوم ضعف المدة مقارنة بالدول التي تعاني من التوزيع غير العادل للثروة.
وتوصل معدّا المذكرة إلى أن تقليل فجوة توزيع الثروة بمقدار 10 نقاط مئوية على مؤشر جيني (Gini Index هو مقياس إحصائي يستخدم لقياس درجة التفاوت في توزيع الثروة بين الأفراد) يؤدي إلى زيادة مدة فترة النمو بنسبة 50%.
ووفقاً للمذكرة، ففي المجتمعات التي تعاني من سوء توزيع الثروة يعاني جزء كبير السكان من نقص الوصول إلى التعليم الجيد والرعاية الصحية مما يقلل من إنتاجية الاقتصاد على المدى الطويل، وغالباً ما تؤدي الفجوات الكبيرة في توزيع الدخل إلى احتقان اجتماعي، حيث تسعى الفئات المحرومة إلى فرض سياسات إعادة توزيع الثروة من خلال وسائل مختلفة، بما في ذلك الاحتجاجات أو حتى الصراعات المسلحة، وبناءً عليه، فإن غياب العدالة الاجتماعية كان عاملاً رئيسياً في الصراعات السياسية التي أعاقت بطبيعة الحال النمو الاقتصادي المستدام.
وتلجأ الدول التي تعاني من توزيع سيء للثروة إلى تعويض ضعف الطلب المحلي من خلال زيادة الاقتراض الخارجي واعتماد تدفقات رؤوس الأموال قصيرة الأجل، ما يؤدي إلى فقاعات اقتصادية تنفجر لاحقاً مسببة أزمات حادة.
وتخلص المذكرة إلى استنتاج مفاده أن سوء توزيع الثروة هو أحد أكبر العوائق أمام استدامة النمو الاقتصادي. والدول التي تتبنى سياسات اقتصادية عادلة اجتماعياً تحقق فترات نمو أطول وأكثر استقراراً، بينما تعاني الاقتصادات غير العادلة اجتماعياً من الأزمات المتكررة وعدم الاستقرار الاجتماعي.
لماذا نريد «أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نمو اقتصادي»؟
ورد في مشروع برنامج «حزب الإرادة الشعبية» أنه في الجانب الاقتصادي برزت الحاجة الملحة لصياغة نموذج اقتصادي بديل من إيجابيات وأخطاء المرحلة السابقة، نموذج جديد شعاره الأول هو «أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نمو اقتصادي».
يشير شعار «أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نمو اقتصادي» إلى العلاقة الجوهرية بين توزيع الثروة العادل وبين تحقيق نمو اقتصادي مستدام في سورية. وهو يعكس قطيعة كاملة مع النهج الذي طالما روّج لفكرة أن العدالة والنمو متناقضان، وأن تحقيق أحدهما يأتي على حساب الآخر. ففي الواقع، وبفعل التغيرات البنيوية في الاقتصاد العالمي، فإن تحقيق النمو نفسه مرهوناً بمدى تحقيق العدالة الاجتماعية، لأن تمركز الثروة لدى قلة من الأفراد لم يعد مجرد مشكلة اجتماعية، بل بات عائقاً مباشراً أمام النمو الشامل.
في المراحل المبكرة من تطور الرأسمالية، كان تحقيق النمو الاقتصادي يتطلب تركّز الثروة لتمويل عمليات التراكم الأولي لرأس المال، لكن اليوم، باتت المشكلة معاكسة تماماً: هناك موارد متراكمة ضخمة، لكنها محجوزة بأيدي قلة قليلة، ما يمنع تدفقها إلى الاقتصاد الحقيقي، ويحدّ من فرص التوسع الإنتاجي وخلق الوظائف. ومن هنا، يصبح تحقيق العدالة في توزيع الدخل والثروة شرطاً أساسياً لإطلاق هذه الموارد وتحفيز النمو الاقتصادي.
لقد اعتمدت سلطة بشار الأسد نموذجاً اقتصادياً ليبرالياً قائماً على تركّز الثروة في أيدي فئة صغيرة من المنتفعين، بينما بقيت باقي الشرائح تعاني من تدني مستويات المعيشة وصولاً إلى انعدام الأمن الغذائي. ولم يفشل نموذج الأسد فقط في تحقيق العدالة الاجتماعية، بل عرقل أيضاً النمو الاقتصادي الحقيقي، حيث أدى الاحتكار والفساد والاستئثار بالموارد إلى قطع الدورة الموسعة للإنتاج ومنع تدفق الاستثمارات إلى القطاعات الإنتاجية.
النموذج الجديد الذي يجب أن تسعى سورية المستقبل إلى تبنيه يجب أن يعكس هذا الفهم العميق للعلاقة بين العدالة والنمو، بمعنى أننا بحاجة فعلاً إلى تحقيق نمو اقتصادي مرتفع، ولكن هذا النمو لا يمكن أن يكون مستداماً إلا إذا كان قائماً على توزيع عادل للثروة، يضمن إشراك فئات المجتمع جميعها في العملية الاقتصادية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1212