هل تُحوِّل الصين أوروبا إلى متحف صناعي؟
مايكل براي مايكل براي

هل تُحوِّل الصين أوروبا إلى متحف صناعي؟

في عام 1934، نشرت مجلة «الاقتصادي النمساوي» مقالة لكارل بولانيي بعنوان «المشكلة الإنسانية في مقاطعة لانكشر». اليوم، وفي ظل صعود الصين وأزمة صناعة السيارات الألمانية، تبدو قراءة مقالته المذكورة آنفاً ذات أهمية خاصة، ولا سيّما تحليله لوضع صناعة النسيج البريطانية في شمال غربي إنكلترا، وتحديداً في مقاطعة لانكشر، بعد الحرب العالمية الأولى. إنّ الوضع الحالي لصناعة السيارات الألمانية يشبه إلى حد كبير ما مرّتْ به صناعة النسيج البريطانية في ذلك الوقت.

ترجمة: أوديت الحسين

قالت المفوضية الأوروبية بأنّ الصين منافس منهجي للغرب، وهو منافس يحوّل أساس الاقتصاد التصديري الألماني، أي صناعة السيارات، إلى نموذج متقادم تكنولوجياً. بالعودة لما كتبه كارل بولانيي: «إن المنافسة القادمة من اليابان فرضت أكبر ضغط على الصناعة البريطانية، ولا سيَّما صناعة النسيج في مقاطعة لانكشر. في هذه المعركة، لعبت عبارة «الإغراق الياباني» دوراً مهمّاً كمصطلح متداوَل. ومع ذلك، فإنّ القولَ بوجود منافسة غير نزيهة لا يمكن أنْ ينفي حقيقة التطوُّر السريع للصناعة اليابانية أو ينكر الأزمة الخطيرة التي شهدتها لانكشر كواقع اقتصاديٍّ صارخ. إنّ أزمة لانكشر لا تعكس تراجع الهيمنة الصناعية البريطانية فقط، بل تعكس أيضاً، في بعض الجوانب، التحول في مصير الرأسمالية الفردية... من المحتمل أن يكون التفوّق الحالي لليابان على صناعة النسيج في لانكشر مجرد علامة على التفوق الاقتصادي لتنظيم المجتمعات الشرقية في المرحلة المتأخرة من الرأسمالية الصناعية التقنية».
كان الحديث آنذاك عن «منافسة منهجية» بالفعل. ولكن أيّ نظام كان أكثر تفوقاً من الناحية التقنية والصناعية؟ في القرن التاسع عشر، أصبحت مقاطعة لانكشر، التي تقودها مدينة مانشستر المركز الصناعي للعالم بأسره. كانت المنسوجات أولى السلع الاستهلاكية العالمية التي تم إنتاجها ميكانيكياً على نطاق واسع. آنذاك، كان ثلثا مغازل القطن في العالم يدور في مانشستر. وحتى عام 1913، كانت مانشستر لا تزال تعالج 65% من القطن العالمي، أيْ ما يقارب مليون طن. لكن بعد عشرين عاماً، لم تعد الأمور على ما يرام. فقد هرمت المصانع والآلات، وعجزت الشركات عن مواكبة الإدارة الحديثة وأساليب التسويق، ولم تعد الأجور قادرة على المنافسة، فضلاً عن غياب أي سياسة صناعية فعالة.
بحسب بولاني، فإنّ ما حدث سببه: «نقص حاد في رأس المال، وتفاقم الديون، وتخلف تقني، وانعدام الحرية لإجراء عمليات الاندماج الضرورية، وباختصار، أصبحت صناعة النسيج مشلولة، تعاني من دمار اقتصادي وانهيار أخلاقي».
اليوم، لا يمكن رؤية مجد مانشستر الصناعي إلا في المتاحف. لكن بعد عشرين عاماً، ما الذي سيبقى من مدينة فولفسبورغ الألمانية ومجموعة فولكسفاغن؟ التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن صعود وسقوط القوى الاقتصادية والتكنولوجية يتكرّر دائماً.
في عام 2007، تولَّى وان غانغ منصب وزير العلوم والتكنولوجيا في الصين، وظلَّ في هذا المنصب حتى 2018. من خلال تجربته، أدرك أن الصين، في مجال السيارات التقليدية، قد تتمكن بعد جهود مضنية من اللّحاق بألمانيا أو اليابان، لكنها لن تتفوّق عليهما أبداً. لذلك، طرح استراتيجية «القفزة الضفدعية»: أي تجاوز المنافسين عبر التركيز على التقنيات المستقبلية.
منذ ذلك الحين، اتبعت الصين استراتيجية ثابتة في مجال السيارات الكهربائية، لم يسبق لأي دولة أخرى في العالم أن تبنّت مثلها. بدأ ذلك مع الحافلات والدراجات الكهربائية، وخلال العشرين عاماً الماضية، أقامت الصين سلسلة إنتاج كاملة للسيارات الكهربائية، مما سرّع تطوير جميع المكونات الأساسية، والبرمجيات المرتبطة بها، والبنية التحتية اللازمة للقيادة المُستعِيْنة بالحاسوب.
اليوم، 98% من الحافلات الكهربائية في العالَم تسير على الطرق الصينية. فقط بين 2023 و2024، قفزت حصة السيارات الكهربائية الصينية في السوق العالمية من 58% إلى 76%. أما قبل 12 عاماً فقط، في عام 2012، لم تكن الصين تمتلك سوى 0.1% من السوق العالمية للسيارات الكهربائية. مؤخَّراً، أطلقت الصين خطَّةَ دعمٍ لتجديد السيارات التقليدية، حيث يتم تقديم منحة قدرها 20,000 يوان صيني (نحو 2800 دولار أمريكي) مقابل استبدال السيارة القديمة بسيارة كهربائية جديدة.
وفقاً لوكالة الطاقة الدولية IEA استحوذت الصين في عام 2021 على نحو 75% من إنتاج بطاريات الليثيوم في العالم، بينما بلغت طاقتها الإنتاجية من المواد «الكاثودية/المِهبَطيّة» و«الأنودية/المِصعَديّة» المستخدمة في البطاريات 70% و85% على التوالي. في 2020، شكلت السيارات الكهربائية 5.5% فقط من إجمالي مبيعات السيارات في الصين، لكن بحلول 2024، تجاوزت هذه النسبة 50%. في المقابل، بلغت حصة السيارات الكهربائية في ألمانيا عام 2024 نحو 13.4% فقط، وهو انخفاض بأكثر من الربع مقارنة بعام 2023، ما يثير قلقاً عميقاً بشأن مستقبل صناعة السيارات الألمانية في ظلِّ التفوق الصيني المتزايد.
في بعض المجالات الحاسمة للتحول نحو الحياد المناخي، وخاصة في إنتاج واستخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وتخزين الطاقة، استطاعت الصين استغلال مجموعة من العوامل المترابطة، من بينها: - التخطيط المركزي طويل الأمد، - التنافس القوي بين المناطق والشركات داخل سوق محلي ضخم، - الاستثمار المستمر في مشاريع البنية التحتية الكبرى، - ضمان الوصول إلى المواد الخام اللازمة لتنفيذ السياسات.
يعيد هذا إلى الأذهان كيف أن الإمبراطورية الألمانية، بين القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى، تفوقت على بريطانيا في مجالي الصناعات الكهربائية والصناعات الكيميائية من خلال «التجاوز دون الحاجة إلى اللحاق». كانت الصناعات الكهربائية والكيميائية في ذلك الوقت هي الصناعات الرائدة، معتمدة على الكثافة العلمية، وقد تبنت ألمانيا آنذاك استراتيجية «القفزة الضفدعية» نفسها التي تتبعها الصين اليوم.
في عام 1913، كانت 90% من أصباغ الألوان الصناعية المنتجة في العالم قادمة من ألمانيا. وكان من بين العوامل التي ساهمت في هذا التفوق: - السياسات الصناعية والعلمية، - نظام تعليمي حديث لتأهيل العمالة التقنية، - إدخال أحدث أساليب الإدارة والتسويق، - مستويات أجور أقل من بريطانيا أو الولايات المتحدة.
خلال بضعة عقود فقط، تمكنت الصين، التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة، من إنشاء نظام تعليمي متفوق تجاوز ألمانيا بفارق كبير، ولا سيَّما في الرياضيات والعلوم. في تصنيفات البرنامج الدولي لتقييم الطلبة PISA، احتلت مقاطعات بكين، وشنغهاي، وجيانغسو، وتشجيانغ، التي تضم نحو 200 مليون نسمة، الصدارةَ العالمية، متفوّقة حتى على سنغافورة وأفضل الدول الأوروبية.
في المقابل، تقع ألمانيا في مستوى متوسط ضمن هذا التقييم. بل إنّ الباحث التعليمي الألماني أولاف كولر قدم استنتاجاً صادماً: «ثلاثة من كل عشرة طلاب ألمان لا يستطيعون في سن 15 عاماً القراءة أو الكتابة أو حل المسائل الحسابية بشكلٍ كافٍ». هذا واقع لا يمكن تصوُّره في الصين.
لم يقتصر الأمر على التفوق الصناعي فحسب، بل أكدت المؤسسة الأسترالية للسياسات الاستراتيجية ASPI في تقريرها لعام 2023 أنّ: «الصين تتصدّر البحث في معظم التقنيات الحيوية والتقنيات الناشئة، وأحياناً بفارق مذهل، مما يضعها في موقع ريادة عالمي يمكّنها من أن تصبح القوة العظمى الرائدة في التكنولوجيا». عادةً، تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية، بينما تحتل ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى مراتب متأخرة، غالباً بين الثالثة والخامسة، في مختلف المجالات البحثية.
إذا أرادت ألمانيا والغرب مواجهة التحدي الصيني، فلا ينبغي الاكتفاء بالانتقاد الأيديولوجي للصين، بل يجب التعامل مع المنافسة المنهجية بين الرأسمالية الليبرالية والاقتصاد الصيني الموجه من قبل الحزب الشيوعي بواقعية.
إن أزمة مجموعة فولكسفاغن اليوم ليست مجرد مسألة تتعلق بشركة أو قطاع معين، بل تمثل قضية عالمية، حيث تعكس الانتقال إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب. هذا الانتقال يثير أسئلة وجودية حول مكانة ألمانيا والاتحاد الأوروبي في هذا النظام الجديد.
إذا أرادت مدينة فولفسبورغ ألا تتحول إلى مجرد «متحف صناعي»، كما حدث مع مصانع النسيج في لانكشر، وإذا كانت أوروبا الغربية لا تريد أن تصبح مجرد وجهة سياحية لمجدها الصناعي المفقود، فعليها أن تبحث عن نقطة انطلاق جديدة، وأن تعالج تحديات المستقبل بجدية وصبر شديدين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1212