الأجور في سورية: متى يُكتب لها تاريخ جديد فعلاً؟

الأجور في سورية: متى يُكتب لها تاريخ جديد فعلاً؟

منذ ستينيات القرن الماضي، عانى السوريون من عمليات نهبٍ واسعة النطاق طالت مختلف جوانب حياتهم، وكان أبرزها استهداف أجورهم بأشكال مباشرة وغير مباشرة، حيث شهدت الأجور الحقيقية (أي تلك التي تقاس بقيمتها الفعلية مقارنة بمتطلبات الحياة) انخفاضاً مستمراً على مدى عقود. لم يكن هذا الانخفاض خطياً أو ذا وتيرة ثابتة، إذ تخللته فترات من التآكل التدريجي وأخرى من الانهيار السريع، مما انعكس بشكل مباشر على حياة الناس ومعيشتهم، ليجعل من تأمين الاحتياجات الأساسية أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة لـ90% من السكان على الأقل. وبطبيعة الحال، لم تكن هذه الظاهرة مجرد نتيجة ثانوية لتقلبات اقتصادية أو أزمات عابرة، بل نتيجة طبيعية لنهج اقتصادي قائم على غياب العدالة الاجتماعية وهيمنة مصالح نخب الفساد الكبير على الاقتصاد الوطني.

يقف الشعب السوري اليوم عند منعطف حاسم في تاريخه، حيث انهارت السلطة السابقة التي حمّلت بلادنا أعباء عقود من الفساد والنهب، لينفتح الباب أمام إمكانية بناء نظام جديد لا بد من أن يكون عادلاً اجتماعياً، وفي الصلب منه تقف مسألة إعادة بناء منظومة الأجور على أسس عادلة تضع حداً لمنظومة الأجور الحالية القاصرة عن تلبية أدنى متطلبات الحياة، حيث الحد الأدنى الرسمي للأجور لا يغطي سوى 1.9% من وسطي تكاليف معيشة الأسرة السورية، بينما تظل أكثر من 98% من الاحتياجات خارج نطاق القدرة المادية للأسرة.

التمويل الخارجي للأجور: سياسة قاصرة ومخاطر استراتيجية

تناولنا في العدد السابق من «قاسيون» التصريحات المتعلقة بنية حكومة تسيير الأعمال المؤقتة رفع الأجور في سورية بنسبة 400%، وطرحنا تساؤلات حول مصادر تمويل هذه الزيادة. في الأيام الأخيرة، ظهرت تفاصيل جديدة توضح ما يلي:
إن هذه الزيادة لن تشمل جميع العاملين في الدولة، بل ستقتصر على «الموظفين القائمين على رأس عملهم، المستعدين للعمل وفق معايير جديدة». يحمل هذا النهج مخاطر واضحة، أبرزها تعميق التفاوت الاجتماعي عبر استثناء شرائح واسعة من العاملين، خصوصاً المتقاعدين الذين يعانون من ظروف معيشية صعبة، مما يزيد من حدة الفقر والتهميش. وكذلك، سيؤدي استثناء العاملين الذين لا يستوفون «المعايير الجديدة» إلى زيادة حدة الاحتقان الاجتماعي، الأمر الذي ينعكس سلباً على البلاد بشكلٍ عام ويعمّق أزمة الثقة بين الحكومة المؤقتة والمواطنين.
من جانب آخر، وهو الأهم، أكدت وكالة «رويترز»، نقلاً عما قالت إنها مصادر عربية وأمريكية في مناصب رفيعة ودبلوماسية، نية قطر ودول أخرى تمويل كتلة الأجور، التي تُقدر بمجموعها بعد الزيادة بـ120 مليون دولار شهرياً.
رغم أن التمويل الخارجي يبدو «حلاً سريعاً» لتغطية الأجور، لكن هذا النهج يعكس تفكيراً اقتصادياً قصير النظر، يركز على إدارة أزمة راهنة بدلاً من معالجة الأسباب البنيوية لها، حيث يحمل التمويل الخارجي للأجور مخاطر كبيرة على المستوى السياسي والاقتصادي، فالتمويل الخارجي مشروط سياسياً بالضرورة (إما برغبات الطرف المموِّل أو حتى بظروفه)، مما يعني أن يصبح القرار الاقتصادي ومعيشة العمال والموظفين عموماً رهينة لإرادة الدول المانحة وشروطها وظروفها، وهو ما قد يدفع أي حكومة إلى تقديم تنازلات استراتيجية تمس القرار الوطني.
كما أن التوجه نحو تمويل الأجور عبر مصادر خارجية لا يعالج المشكلة الاقتصادية البنيوية، بل يفاقمها على المدى الطويل، حيث يعزز الاعتماد على الخارج ويضعف أي محاولة لبناء اقتصاد وطني مستقل. يجب أن تستند الحلول المستدامة إلى دفع الإنتاج الحقيقي في البلاد، واستعادة الثروات العامة التي جرى نهبها وخصخصتها أيام السلطة السابقة، وإصلاح النظام الضريبي لزيادة الإيرادات بشكلٍ عادل بحيث يُسهم في زيادة الإيرادات الحكومية من دون أن يثقل كاهل الفئات الأكثر تضرراً.
السيادة الوطنية التي جرى انتهاكها طولاً وعرضاً على أيام السلطة الساقطة ليست مجرد شعار، بل هي مسؤولية تتجسد في القدرة على البدء ببناء عوامل الاستقرار الاقتصادي، وتجنب الوقوع في فخ الضغوط الخارجية. وأي زيادة للأجور غير مرتبطة بسياسات اقتصادية مستقلة تحفز الإنتاج الوطني ستكون مجرد إجراء مؤقت يعمق الأزمة بدلاً من حلها. لهذا، فإن التحدي الأكبر أمام أي حكومة ليس فقط في تنفيذ الزيادات الموعودة، بل في وضع استراتيجية شاملة تضمن بناء اقتصاد قوي ومستدام يُغني البلاد عن الارتهان لمساعدات الخارج وتبعاتها السياسية.

1209-36

تسريح الموظفين بالجملة: ما هي الكلفة الاجتماعية؟

قال وزير المالية في حكومة تسيير الأعمال المؤقتة، محمد أبازيد، إن هناك 300 ألف موظف في القطاع العام السوري ستشطب أسماؤهم. وجاء هذا الإعلان بالتوازي مع قرار منح عدد كبير من العاملين في القطاع العام إجازات مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر، مع مخاوف متزايدة من أن يكون هذا الإجراء تمهيداً لفصلهم تحت ذريعة «فائض الكوادر». فوق ذلك، توقفت رواتب العسكريين العاملين والمتقاعدين الذين خدموا بعد عام 2011.
تحمل هذه القرارات تداعيات اجتماعية واقتصادية خطيرة، حيث تعني بشكل مباشر أن آلاف العائلات السورية باتت دون مصدر دخل عملياً في ظل ظروف اقتصادية متدهورة. هذه العائلات التي تعتمد بشكل ما على هذه الرواتب الشحيحة لتأمين جزء بسيط جداً من احتياجاتها اليومية تواجه الآن انعدام القدرة على تحمل هذه التكاليف الأساسية.
الوضع يزداد سوءاً عندما ننظر إلى التكلفة الاجتماعية لهذه القرارات التي تزيد مشاعر الإحباط والغضب لدى شريحة كبيرة من العاملين في الدولة، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تعزيز التماسك الاجتماعي.
الافتراض بأن شطب أسماء الموظفين أو إيقاف الرواتب قد يكون وسيلة لتوفير النفقات ووقف عمليات التلاعب التي لا ينكر أحد وجودها في جهاز الدولة هو تبسيط مفرط للمشكلة، فتكلفة صرف أجور هؤلاء الموظفين، حتى لو كانت تبدو كبيرة في ظل الوضع المالي الحالي، هي أقل بكثير من التكلفة الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن ترك الآلاف من الأسر دون دخل، وفي مثل هذه الظروف، يجب أن تكون الأولوية للحفاظ على شبكة الأمان الاجتماعي بدلاً من تعميق الأزمة.
معالجة المشكلات وعمليات الفساد التي ضربت الجسم الإداري للدولة في عهد الأسد هي عملية ضرورية وملحة، ولأنها كذلك يجب أن تجري عن طريق مسار مدروس دون تسرع، وليس عبر قطع الرواتب عن عشرات الآلاف من العائلات التي تعتمد عليها للبقاء.

ما هي الأجور التي يجب المطالبة بها؟

الحد الأدنى الرسمي للأجور حالياً بعيد تماماً عن أي معيار للعدالة، أو حتى عن الحد الأدنى الضروري للبقاء. لكي يكون الأجر عادلاً، يجب ألا ينخفض حده الأدنى عن الحد الأدنى لتكاليف المعيشة في البلاد، أي الحد الأدنى اللازم لكي يبقى الإنسان على قيد الحياة، ويتمكن من إعادة إنتاج قوته العاملة يومياً.
وفق «مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة» بلغ وسطي تكاليف المعيشة في سورية مع بداية هذا العام نحو 14.5 مليون ليرة سورية شهرياً للأسرة، وهذا هو الحد الأدنى الذي يجب أن يستند إليه أي حديث عن أجور عادلة أو قريبة من العدالة. ولكي تحقق الأجور الحد الأدنى من العدالة، يجب أن تُربط بشكل دوري ومباشر بمتوسط تكاليف المعيشة، بحيث يتم تعديلها مع أي ارتفاع أو انخفاض في التكاليف، لضمان قدرة العمال وأسرهم على البقاء في مواجهة أعباء الحياة اليومية.
لكن، إذا كان الهدف هو أكثر من مجرد بقاء الإنسان على قيد الحياة، وإذا أردنا منظومة أجور تسهم في تحسين مستوى حياة المنتجين في سورية، فإن الأجور يجب أن تتجاوز سقف سد الاحتياجات الأساسية. الأجور العادلة يجب أن تعطي للعمال قدرة على تطوير أنفسهم، وتحقيق استقرار معيشي يمكنهم من الاستثمار في تعليم أبنائهم، وتحسين ظروفهم الصحية والاجتماعية، والمشاركة في بناء مجتمع أكثر عدالة. حيث لا يمكن لأي اقتصاد أن ينهض إذا كان معظم أبنائه يعيشون على حد الكفاف، أو يواجهون يومياً خطر الانهيار تحت وطأة الفقر المدقع. لذلك، يجب أن تعكس منظومة الأجور هدفاً أوسع من مجرد سد الرمق، وأن تكون أداة لتحفيز الإنتاجية ولتحقيق تنمية اقتصادية شاملة ومستدامة.
لكن، كيف يمكن تحقيق هذه الأهداف في ظل الواقع الحالي؟ الأكيد أن الوصول إلى منظومة أجور عادلة يتطلب تغييراً جذرياً في البنية الاقتصادية والاجتماعية القائمة. المشكلة لا تكمن فقط في ضعف الموارد أو التحديات الاقتصادية، بل في التوزيع المختل للثروة لصالح نخبة صغيرة من الفاسدين وكبار النخب الاقتصادية. هؤلاء استحوذوا على حصة الأسد من موارد البلاد، وتركوا الأغلبية الساحقة من الشعب السوري تعاني من الفقر والتهميش. أي حل حقيقي غير شكلي لمسألة الأجور لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استطاع الـ90% من المنهوبين من أبناء الشعب السوري أن يفرضوا إرادتهم الجماعية لإعادة توزيع الثروة لمصلحتهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1209