السوريون يستحقون اقتصاداً يخدمهم... لا يعيد إنتاج سياسات النظام السابق
مع رحيل السلطة السابقة، وتعيين حكومة تسيير الأعمال المؤقتة، يجد السوريون أنفسهم أمام مرحلة جديدة تترافق مع تطلعات وآمال بمستقبلٍ أفضل، ولكن أيضاً أمام تساؤلات ملحّة حول القرارات والسياسات التي تنتهجها هذه الحكومة في ظل واقع سياسي مضطرب ووضع اقتصادي متدهور. حيث تبرز العديد من القضايا التي تمس حياة الناس بشكل مباشر: ابتداءً من الأجور وقدرتها الفعلية على تأمين احتياجات الشعب السوري من سلعٍ وخدمات، وليس انتهاءً عند التفكير في هوية الاقتصاد الوطني، والآثار المرتقبة لإعلان الحكومة المؤقتة اعتمادها نهج «اقتصاد السوق المفتوح» في تكرار عمليّ لسياسات السلطة الساقطة التي تلطت خلف شعار «اقتصاد السوق الاجتماعي».
بعد مرور نحو ثلاثة أسابيع فقط على تشكيل حكومة تسيير الأعمال المؤقتة، اتضح أن العديد من قراراتها تجاوزت الدور المنطقي الذي يمكن أن تلعبه حكومة «تسيير أعمال» و«مؤقتة». ففي الأصل، تُكلَّف حكومات تسيير الأعمال المؤقتة بإدارة شؤون البلاد العاجلة وضمان استمرارية عمل المؤسسات إلى حين تأمين انتقال السلطة أو الاتفاق على جسم حكم يمتلك صلاحيات كاملة. لكن نظرة سريعة على القرارات الاقتصادية التي اتخذتها هذه الحكومة والتصريحات التي أطلقتها تكشف عن توجهات تتّسم بالتسرع، حيث شملت توجهات مفصلية واستراتيجية لا يمكن اتخاذها بهذه السرعة وهذا الشكل حتى في أوقات الاستقرار السياسي والاقتصادي.
من سيمول رفع الأجور في سورية؟ وكيف؟
بتاريخ 15 كانون الأول 2024، صرح قائد «الإدارة السورية الجديدة»، أحمد الشرع، أنه «يتم دراسة العمل على رفع الرواتب بنسبة 400% في سورية». ومنذ ذلك الوقت، توالت تصريحات أعضاء حكومة تسيير الأعمال المؤقتة التي تعزز الفكرة ذاتها، فيما خرجت أصوات أخرى تشير إلى صعوبة تحقيق هذا الرفع الكبير، مقترحة أن تكون البداية برفع بنسبة 100%.
لا جدال في أن أي زيادة تُضاف إلى دخل العاملين في سورية، خصوصاً المنتجين منهم، تعدُّ خطوة إيجابية، شريطة أن تحتفظ هذه الزيادة بقيمتها الحقيقية. فالزيادة النقدية وحدها لا تعني شيئاً إذا ما أدت إلى تضخم مفرط يلتهم القوة الشرائية للمواطنين، ويجعل من الأموال الإضافية عبئاً جديداً بدلاً من أن تكون حلاً. في الواقع، كثيراً ما كانت زيادات الأجور المعلنة في سورية أيام السلطة الساقطة مجرد وسيلة أخرى لتغذية أرباح كبار الفاسدين، لا تحسين حياة العاملين.
الزيادة الاسمية للأجور، التي لا تترافق مع تحسين فعلي للقوة الشرائية، ستكون موجهّة لخدمة السوق والمحتكرين، حيث ترفع الأسعار فوراً لتلتهم أي زيادة محتملة. ولذلك، فإن الحل لا يكمن في زيادة الأجور فقط، بل في ضمان أن تكون هذه الزيادة حقيقية، ولا يمكنها أن تكون حقيقية ما لم تراعِ العوامل الأساسية الثلاثة التالية:
أولاً: يجب أن تُربط الأجور بتكاليف المعيشة. فزيادة الأجر الإجمالي بلا ضمان لقدرته الشرائية في السوق لا تعني شيئاً سوى مزيد من التدهور المعيشي. المطلوب هو ربط الأجور بمؤشرات حقيقية كتكاليف الغذاء والإيجار والخدمات الأساسية، لضمان أن تغطي الأجور احتياجات الأسر.
ثانياً: حتى لو تم تحديد الحد الأدنى للأجور استناداً إلى تكاليف المعيشة، فإن هذا غير كافٍ إذا ما استمرت الأسعار في الارتفاع. لذا، يجب أن يكون هناك نظام معتمد لتعديل الأجور دورياً بناءً على تغييرات الأسعار، سواء بشكل شهري أو ربع سنوي. وهذا ليس «فضلاً» أو «مكرمة» من أحد، كما كان يجري الترويج أيام السلطة السابقة، بل حق للعمال، ويُثبت جدواه في تجارب دول عديدة.
ثالثاً: أي زيادة جدية في الأجور يجب ألا تأتي من جيوب المواطنين عبر رفع الضرائب غير المباشرة أو التخلي عن عمليات الدعم الاجتماعي، كما لا يمكن الاعتماد على الديون والمساعدات الخارجية التي تأتي مشروطة سياسياً، بل يكمن الحل في زيادة الإنتاج الوطني ومكافحة الفساد، وخاصة استهداف منابع النهب الكبير.
وواحد من الأمثلة الواضحة على مطارح الفساد الكبير هو شركات الاتصال الخليوي، الذي لطالما كان مصدراً لأرباح هائلة تصب في جيوب لصوص السلطة عبر شخصيات مثل رامي مخلوف وغيره، وهي الشركات التي طرح حزب الإرادة الشعبية علناً، ومنذ ما قبل 2011، ضرورة تأميمها ولا سيما أن هذه الشركات تحتاج تكاليف تشغيل بسيطة مقارنة بعائداتها الكبيرة.
ولا يتوقف الأمر عند قطاع الاتصالات. هناك ثروات أخرى تُنهب عبر سياسات الاحتكار والفساد، تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية لتحويلها إلى موارد لخدمة الشعب.
من المستفيد من فرض تطبيق «شام كاش» على الموظفين؟
في خطوة جديدة أثارت استهجاناً واسعاً، طُلب من العديد من الموظفين في جهاز الدولة اعتماد آلية جديدة لاستلام رواتبهم، وهي التسجيل في تطبيق جديد يدعى «شام كاش»، والذي يُفترض أنه يقدّم خدماته بوصفه محفظة إلكترونية. لكن بينما يبدو في البداية أن الأمر يتعلق بتحديث آليات الدفع لتكون أكثر كفاءة فقط، ظهرت سلسلة من المشكلات الخطيرة التي تثير مخاوف حقيقية حول أمان التطبيق وجدواه ومصداقيته.
عادةً، تعتمد موثوقية التطبيقات على إدراجها في متاجر التطبيقات الرسمية مثل Google Play وApple App Store، حيث تخضع لمراجعات أمنية صارمة. لكن تطبيق «شام كاش» غير موجود في أي منهما، ما يعني أن المستخدمين يضطرون لتنزيله من مصادر خارجية، مما يعرض أجهزتهم لخطر تنزيل برمجيات خبيثة أو برامج تجسس. وبما أن تنزيل التطبيق كان بطلب إلزامي، فقد أصبح الموظفون في مواجهة مباشرة مع احتمال استخدام التطبيق لجمع بياناتهم دون علمهم.
وتعتمد المحافظ الإلكترونية في موثوقيتها على البنوك أو المؤسسات المالية المرخصة، لكن تطبيق «شام كاش» يرتبط فقط بشركة صرافة مقرها إدلب، تحولت لاحقاً إلى «مصرف شام» غير المعترف به من قبل أي جهة تنظيمية مصرفية، لا على الصعيد المحلي تحت إشراف مصرف سورية المركزي، ولا على الصعيد الدولي. والاعتماد على كيان مالي غير معترف به يضع الموظفين أمام معضلة حقيقية، حيث لا توجد ضمانات قانونية لحماية أموالهم.
النقطة الأهم والأكثر إشكالية هي أن التطبيق يدعم فقط الدولار الأميركي والليرة التركية، بينما لا مكان فيه للعملة الوطنية السورية. وهذا يشكل ضربة مباشرة لليرة السورية، إذ يعني فعلياً إخراجها من دورة المعاملات المالية للموظفين. وفوق ذلك، فإن الاعتماد على عملتين أجنبيتين يزيد من انعدام الاستقرار المالي في ظل تقلبات أسعار الصرف، ما يفاقم من صعوبة حصول الموظفين على قيمة فعلية من رواتبهم.
وحتى مع تحويل الرواتب إلى المحفظة، يظل السؤال الأكبر: كيف سيتمكن الموظفون من الوصول إلى أموالهم؟ التطبيق غير مربوط بأي منظومة مصرفية موثوقة، مما يعني غياب قنوات سحب معروفة أو موثوقة. وهنا السؤال: هل ستُفرض رسوم إضافية أو تُحدد قنوات معقدة للحصول على الرواتب نقداً؟
البضائع الأجنبية: نار تحت الرماد جاهزة للاشتعال
وجود بضائع أجنبية رخيصة نسبياً في الأسواق السورية قد يبدو في الظاهر نعمة للمستهلك الذي يعاني من ضغوط معيشية خانقة، لكنه في الواقع يحمل في طياته أضراراً كارثية على الاقتصاد المحلي ومعيشة المواطن على المدى الطويل.
السبب الأساسي وراء انخفاض أسعار هذه البضائع مقارنة بالمنتجات المحلية يعود إلى الدعم الكبير الذي تقدمه الدول المنتجة لهذه السلع لمصانعها وقطاعاتها الإنتاجية. ويشمل هذا الدعم الطاقة والنقل والمواد الخام، مما يتيح لتلك الدول إنتاج سلع بتكاليف أقل بكثير. في المقابل، يعاني المنتج المحلي السوري من غياب كامل للدعم، إلى جانب ارتفاع تكاليف الإنتاج بشكل كبير بسبب أسعار الطاقة المرتفعة وتكاليف المواد الأولية وتعقيد الظروف الاقتصادية العامة.
نتيجة لهذه الفجوة في التكاليف، تعجز المنتجات المحلية عن منافسة البضائع الأجنبية، مما يؤدي إلى تراجع الصناعة الوطنية وإغلاق المزيد من المصانع، وبالتالي فقدان آلاف الوظائف. هذا التدفق المستمر للبضائع الأجنبية يؤدي بالضرورة إلى ضغط إضافي على العملة الوطنية، إذ يتطلب استيرادها تحويل مبالغ كبيرة من العملة المحلية إلى عملات أجنبية، مما يساهم في تدهور قيمة الليرة السورية ويزيد من أعباء المعيشة على المواطنين.
في البداية، قد يشعر المواطن بارتياح مؤقت نتيجة انخفاض الأسعار، لكن على المدى البعيد، تدمير القطاع الإنتاجي المحلي سيرفع معدلات البطالة، ويضعف القدرة الشرائية للمواطنين، ويزيد من التبعية الاقتصادية للخارج.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1208