الصين تستفيد من دروس السوفييت: التوجه نحو السوق الداخلية أولاً
تُعتبر الصين منذ عشر سنوات (منذ عام 2014 تقريباً) أكبر اقتصاد في العالم إذا قيس الناتج المحلي الإجمالي (GDP) على أساس تعادل القوة الشرائية للعملة الوطنية مع الدولار الأمريكي. ثم تأتي الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الثانية منذ ذلك الحين. ووفقاً لبيانات منظمة التجارة العالمية (WTO)، احتلت الصين المركز الأول عالمياً في قيمة الصادرات السلعية منذ عام 2009، وظلت تحافظ على هذا المركز طوال الخمسة عشر عاماً الماضية مع زيادة الفارق بينها وبين الولايات المتحدة التي تحتل المرتبة الثانية. وفي عام 2023، بلغت حصة الصين من الصادرات العالمية 17.5%، مقارنة بحصة الولايات المتحدة التي بلغت 10.5% فقط. ومع ذلك، يختلف الوضع فيما يتعلق بالواردات، حيث تأتي الولايات المتحدة في المركز الأول والصين في المركز الثاني. ففي العام الماضي، كانت قيمة الواردات الأمريكية أعلى بنسبة 24% من الواردات الصينية.
يمكن تفسير هذه الفجوة بسهولة: تمتلك الصين فائضاً كبيراً في ميزانها التجاري (رصيد إيجابي)، بينما تعاني الولايات المتحدة من عجز كبير (رصيد سلبي). ومن حيث إجمالي حجم التجارة الخارجية، تفوقت الصين على الولايات المتحدة في عام 2013، ومنذ ذلك الحين تُعتبر الصين القائد بلا منازع في هذا المجال. ومع ذلك، تقلص الفارق بين الصين والولايات المتحدة مؤخراً في إجمالي حجم التجارة الخارجية. حيث بلغت الصادرات الصينية في عام 2023 نحو 3.38 تريليون دولار، والواردات 2.55 تريليون دولار، ليغدو الفائض التجاري الصيني نحو 0.83 تريليون دولار، وليبلغ إجمالي التجارة الكلي نحو 5.93 تريليون دولار.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، وفي بيانات العام ذاته، فقد بلغت الصادرات الأمريكية نحو 2.02 تريليون دولار، والواردات 3.17 تريليون دولار، ليصبح العجز التجاري الأمريكي نحو 1.15 تريليون دولار، وليبلغ إجمالي التجارة الكلي نحو 5.19 تريليون دولار.
التنمية الاقتصادية السريعة للصين وتأثيرها على التجارة الخارجية
منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية الأولى في أوائل الثمانينيات، ركزت الصين على التوسع في الأسواق الخارجية. ففي عام 1981، بلغت صادرات وواردات الصين 22.5 و21.7 مليار دولار على التوالي. بينما في عام 2001، وصلت الصادرات والواردات إلى 266.1 و243.6 مليار دولار على التوالي. ما يعني أن صادرات وواردات الصين زادت بأكثر من عشرة أضعاف خلال عقدين من الزمن!
وشهدت الصين معدلات نمو اقتصادي مرتفعة جداً بين عامي 1983 و2013، حيث بلغ متوسط النمو السنوي حوالي 10%. وكان ذلك إلى حد كبير مدعوماً بالزيادة السريعة في الصادرات. واكتسبت الصين زخماً إضافياً في عام 2001 عندما انضمت إلى منظمة التجارة العالمية (WTO)، حيث فتحت هذا العضوية أمامها العديد من الأسواق للسلع ذات القيمة المضافة العالية، والتي كانت الصين تستهدفها بسبب توفر العمالة الرخيصة.
لكن في القرن الحالي، بدأت بعض المحركات الرئيسية التي ساهمت في نمو الصادرات الصينية في التباطؤ، ومنها:
ارتفاع تكلفة العمالة: بفضل تحسين نظام الأجور، أصبحت العمالة في الصين أكثر تكلفة، مما «قلل» نظرياً من تنافسية السلع الصينية في الأسواق العالمية.
منافسة الأسواق الناشئة: زادت مشاركة العديد من الدول في الأسواق العالمية، خاصة الدول النامية مثل الهند، إندونيسيا، المكسيك، فيتنام، تايلاند، وماليزيا، مما أدى إلى تقليص الحصة السوقية للصين بديهياً.
السياسات الحمائية الأمريكية: مع تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، تبنت الولايات المتحدة سياسات حمائية واضحة تجاه السلع الصينية، حيث كانت السوق الأمريكية تاريخياً السوق الرئيسية للصادرات الصينية. وبعد فوزه مؤخراً في الانتخابات الرئاسية، أعلن ترامب أنه سيواصل هذه السياسات، مع وعد بفرض رسوم جمركية تتراوح بين 60% و100% على السلع الصينية.
التوترات السياسية بسبب تايوان: تصاعدت التوترات السياسية بين واشنطن وبكين بسبب قضية تايوان، مما قد يؤدي إلى فرض عقوبات اقتصادية إضافية من جانب واشنطن وحلفائها الرئيسيين ضد الصين.
تشكّل هذه التحديات مجتمعة ضغطاً على الاقتصاد الصيني، مما يدفعه لإعادة النظر في استراتيجياته التجارية والتنموية.
نتائج السياسات الحمائية الأمريكية بدأت تظهر بوضوح
وفقاً لبيانات الجمارك الصينية، انخفضت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة في نهاية عام 2023 بنسبة 13.1%، حيث وصلت إلى 500.29 مليار دولار. في الوقت نفسه، انخفضت واردات الصين من الولايات المتحدة بنسبة 6.8%، لتصل إلى 164.16 مليار دولار. وبشكل عام، تراجع حجم التجارة بين الصين والولايات المتحدة في العام الماضي بنسبة 11.6%.
أما إجمالي صادرات الصين إلى جميع دول العالم في عام 2023 فقد بلغ 3.38 تريليون دولار، بانخفاض قدره 4.6% مقارنة بالعام السابق. وواجهت الواردات أيضاً تراجعاً أكبر بنسبة 5.5%. لكن رغم ذلك، تحسنت الأوضاع بعض الشيء هذا العام، حيث شهد النصف الأول من عام 2024 زيادة بنسبة 2.9% في حجم التجارة الخارجية للصين، ليصل إلى 2.98 تريليون دولار. وزادت الصادرات بنسبة 3.6%، لتصل إلى 1.71 تريليون دولار، بينما ارتفعت الواردات بنسبة 2%، لتصل إلى 1.27 تريليون دولار.
لكن القيادة الصينية تدرك أن توسيع التجارة في الأسواق العالمية أصبح أكثر صعوبة. وبالتالي، يجب عليها التوجه بشكل أكبر نحو السوق المحلية والتخلي عن نموذج الاقتصاد المعتمد على التصدير. وقد بدأ الرئيس الصيني شي جين بينغ في الحديث عن هذه الفكرة في عام 2018، بعد أن بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تهديد الصين بتقليص صادراتها بشكل كبير وإعادة التوازن إلى التجارة بين البلدين.
منذ شهر أيار 2020، بدأ المسؤولون الصينيون في التحدث عن استراتيجية «الدورة الداخلية»، التي تعطي الأولوية للاستهلاك المحلي والأسواق المحلية والشركات الوطنية كمحركات رئيسية للاقتصاد الصيني. وعند إعداد الخطة الخمسية الرابعة عشرة للصين (2021-2025)، تم تعديل اسم الاستراتيجية إلى «الدورة المزدوجة»، والتي تهدف إلى الجمع بين التوجه نحو السوق المحلية والتوجه نحو السوق الخارجية. وكان الرهان على أن هذا الجمع بين الاتجاهين سيحقق تأثيراً فعالاً.
التوجه نحو «الدورة الداخلية» والاستفادة من النموذج السوفييتي
في عام 2023، أدركت القيادة الصينية أن استراتيجية «الدورة المزدوجة» تحتاج إلى تعديل جديد لصالح «الدورة الداخلية». فقد أصبح تهديد فرض العقوبات من جانب الولايات المتحدة وحلفائها حقيقياً، ليس فقط فيما يتعلق بتقييد أو حظر صادرات الصين، بل أيضاً في فرض قيود على شراء بعض السلع من الولايات المتحدة وحلفائها، خصوصاً تلك الضرورية لإنتاج التكنولوجيا المتقدمة والأسلحة.
في هذا السياق، بدأ المسؤولون الصينيون في استخدام مصطلح «الاعتماد الاقتصادي الذاتي»، مما يعني أن البلاد يجب أن تلبي احتياجاتها بشكل أساسي من الإنتاج المحلي. كما تم الحديث عن «السوق الداخلية الموحدة»، حيث يجب دمج الأسواق الإقليمية والمحلية في سوق وطني واحد، ليكون أكبر سوق داخلي في العالم، بالنظر إلى عدد سكان الصين الذي يقترب من 1.5 مليار نسمة. ويعد التوجه نحو هذا السوق الضخم ضماناً لفعالية الإنتاج العالية من خلال «تأثير الحجم». كما أن مصطلح «الموحد» يعني أن جميع القطاعات الإنتاجية الضرورية ستوجد في السوق المحلية، بما في ذلك إنتاج السلع الاستهلاكية ووسائل الإنتاج، وهو ما يشبه «المجمع الاقتصادي الوطني» الذي كان موجوداً في الاتحاد السوفيتي.
تعتبر القيادة الصينية أن تحفيز الطلب المحلي هو المحرك الرئيسي لتنمية السوق الداخلية. وفي عام 2023، اعتمدت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في الصين اتجاهات تحفيز الطلب الداخلي، والتي تضمنت رفع بعض القيود الحكومية، وتوسيع الإجازات المدفوعة، وتوفير حوافز للمشترين من سيارات الكهرباء، وتحسين البنية التحتية للتجارة والخدمات، بالإضافة إلى تنظيم المعارض والفعاليات الاستهلاكية.
وفي شهر آب 2024، اقترحت السلطات الصينية 20 خطوة لتحفيز الاستهلاك المحلي، وذلك في إطار مواجهة تباطؤ النمو الاقتصادي في الربع الثاني من العام ذاته. وتشمل هذه الإجراءات تحسين جودة خدمات الطعام العامة، وتطوير الاستهلاك في مجالات الثقافة والسياحة، وتشجيع الرياضة وإنشاء مرافق رياضية جديدة، ودعم المؤسسات التعليمية لتلبية احتياجات المواطنين التعليمية، وتعزيز الخدمات الرقمية.
التوجه نحو التقنيات العالية: من البناء إلى الابتكار
حتى العام الماضي، كان قطاع البناء وسوق العقارات يشكلان المحرك الرئيسي للاقتصاد الصيني. لكن هذا المحرك استنفد طاقته بسبب إفلاس شركات البناء الكبرى، وتراجع أسعار العقارات، ووجود كميات ضخمة من العقارات غير المباعة، وما إلى ذلك. لكن الآن، جرى التحول إلى الاعتماد على محرك آخر وهو التقنيات العالية، خاصة في مجالات الإلكترونيات، والحواسيب، والاتصالات الرقمية، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي، والبرمجة، وأشباه الموصلات، والرقائق الدقيقة، وغيرها من التكنولوجيات المتقدمة.
وبحلول عام 2030، تعتزم الصين أن تصبح رائدة عالمياً في جميع الصناعات الرئيسية في مجال التقنيات العالية، بما في ذلك الإلكترونيات، وتصنيع المواد الجديدة، والطيران، والفضاء، والطاقة الخضراء، والقطارات عالية السرعة، وغيرها من المجالات. ومع الاقتراب أكثر من نهاية هذا العقد، ستنتهي فترة «التعبئة الداخلية» في الصين، وستظهر البلاد على الساحة العالمية بمنتجات فريدة لا يمتلكها أحد غيرها.
التحول نحو السوق المحلية: التحديات المالية
تبدو خطط الصين للتحول من الاعتماد على الأسواق الخارجية إلى السوق الداخلية منطقية ومقنعة. ولكن أحد التحديات الكبرى في هذه الخطط هو مسألة التمويل. لتحفيز الطلب الاستهلاكي من قبل المواطنين الصينيين ودعم برامج المشاريع الابتكارية، يحتاج الأمر إلى أموال ضخمة. هنا، تعتمد بشكل رئيسي على الميزانية الحكومية.
في السابق، كان مجلس الدولة والهيئات الحكومية الأخرى تراقب بدقة الانضباط المالي، بما في ذلك الحفاظ على توازن الميزانية. ومع ذلك، في الفترة من 2020 إلى 2022، سجلت الصين عجزاً غير مسبوق في الميزانية. ففي عام 2022، بلغ العجز حوالي 1.1 تريليون دولار، أي ما يعادل 7.4% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد تم تبرير هذه العجوزات بالآثار التي خلفتها جائحة كوفيد-19 على الصين واقتصادها. لكن مع انتهاء الجائحة، استمر العجز في الميزانية. لكن في عام 2024، تم تحديد عجز الميزانية المستهدف بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يعني أن الصين قد بدأت في اتجاه عكسي لتقليل هذا العجز وبنسب كبيرة.
السياسة الحالية للصين في إعادة توجيه الاقتصاد من الأسواق الخارجية إلى السوق المحلية يمكن أن تقدم درساً هاماً لجميع الدول المرتبطة بشكل مفرط بالسوق العالمي لتستفيد من هذا النموذج.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1204