خصخصة حكومية مقنّعة... شعارها «الانتقال من التشغيل إلى التنظيم»

خصخصة حكومية مقنّعة... شعارها «الانتقال من التشغيل إلى التنظيم»

خلال جلسة مجلس الوزراء المنعقدة في 5 تشرين الثاني 2024، أدلى وزير الصناعة بتصريحات تناول فيها وضع القطاع الصناعي في سورية، مسلطاً الضوء على «الخسائر الكبيرة» التي تتكبدها وزارة الصناعة، وتراجع دور القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى حديثه عن خيار انسحاب الحكومة من بعض القطاعات الصناعية بوصفها يمكن أن تكون «خطوة إيجابية» وفق وجهة نظره. وأكد الوزير أن الانتقال من «دور التشغيل إلى دور التنظيم المدروس والمخطط» قد يكون هو السبيل الأمثل لمعالجة ما وصفه بالمعادلة الصعبة، التي تتمثل في استمرار خسائر العديد من الشركات والمؤسسات التابعة للقطاع العام، مقابل وجود «عدد محدود من الرابحين الانتهازيين والفاسدين».

أكد وزير الصناعة أن الوزارة «ستقوم بتغيير هذه المعادلة بشكل عاجل غير آجل، وبكل هدوء وأناة ووفق دراسات جدوى اقتصادية لا تستبعد أي خيار كان، فالانسحاب من بعض القطاعات الصناعية قد يكون خطوة إيجابية ومربحة بالنسبة للقطاع العام، ولن تتردد الوزارة بالمبادرة لاعتمادها في سياق التحول من دور التشغيل إلى دور التنظيم المدروس والمخطط».
تصريحات الوزير حول الخسائر الكبيرة في القطاع الصناعي، وضرورة «تغيير المعادلة» من خلال الانسحاب من بعض القطاعات الصناعية، تتطلب وقفة جادة. صحيح أن القطاع يعاني من تحديات، لكن هذه المشكلات ليست مبرراً للتخلي عن الدور الحيوي للدولة في الاقتصاد. فانسحاب الدولة من القطاعات الصناعية تحت ستار «التنظيم المدروس» لا يعني سوى تصفية الصناعات العامة، لمصلحة أصحاب الربح الكبير في البلاد، وعلى نحو يضرب أساسات الاقتصاد السوري ويزيد من حجم الفجوة الاجتماعية الاستثنائية في سورية.
الدور الاقتصادي للدولة يجب أن يتجاوز الربحية، فهو يتعلق بضمان الاستقرار الاجتماعي، وتأمين فرص العمل، وتأمين الحد الأدنى من عوامل قوة الاقتصاد الوطني. فالحل - خلافاً للطرح المذكور - يكمن في تعزيز الدور الاجتماعي للدولة ومكافحة الفساد جدياً وتعزيز كفاءة الاقتصاد الوطني، وليس في التخلي عن القطاعات الحيوية تحت ذريعة الخسائر.

هل حقاً يشكل القطاع الصناعي عبئاً على الاقتصاد؟

أكد الوزير أن قطاع الصناعة تراجع «وتراجعت مساهمته بالتركيب الهيكلي للناتج المحلي بالأسعار الثابتة، كما ظل القطاع العام الصناعي ومؤسساته وشركاته يفرض تحديات كبيرة على الاقتصاد السوري كله، نتيجة استمرار أغلبية مؤسساته وشركاته بالعمل بإدارات تقليدية، وفي مجالات غير قادرة على المنافسة، ما أدى إلى استنزاف المال العام في مشاريع غير ربحية أو بأرباح بسيطة جداً قياساً بتكاليفها، وإثقال كاهل الدولة بأعباء إضافية بدلاً من دعم مواردها».
أولاً، القول بأن القطاع الصناعي العام يفرض تحديات كبيرة بسبب «الإدارات التقليدية» و«المشاريع غير الربحية» يعكس مشكلة في إدارة هذا القطاع، لكنه لا يعني أن الحل يكمن في تقليص دور الدولة. وإذا سلّمنا بالمقدمات التي طرحها الوزير، فإن أول ما ينبغي سؤاله هو لماذا هذه الإدارات «تقليدية»؟ أما الحديث عن «استنزاف المال العام» في المشاريع غير الربحية فيجب أن يقابله تحليل دقيق حول جدوى هذه المشاريع وأسباب ضعف أرباحها. قد تكون بعض المشاريع غير مربحة بالمعايير التجارية، لكنها قد تلعب دوراً اجتماعياً حيوياً، مثل توفير فرص العمل ودعم الاقتصاد المحلي في ظل الظروف الاستثنائية. هنا، يجب النظر إلى القطاع العام باعتباره أحد دعائم الاستقرار الاقتصادي الاجتماعي وليس مجرد مجال خاضع لحسابات الربح والخسارة.
والإثقال المزعوم لكاهل الدولة ليس قدراً محتوماً، بل يمكن تغييره عبر تغيير السياسات الإنتاجية، وتحديث الآلات والمعدات، وتدريب الكوادر البشرية، والأهم من ذلك كله وضع حد للفساد الكبير الذي ينهب الاقتصاد الوطني. الحل يكمن في إيجاد سبل تقوية المؤسسات العامة، وليس التخلي عنها أو اعتبارها غير قادرة على المنافسة. فالدولة تتحمل مسؤولية الاستثمار في القطاع الصناعي لتعزيز الإنتاجية والنهوض بالاقتصاد الوطني، وتفعيل دورها التنموي والاجتماعي، بدلاً من تحويل الدفة للقطاع الخاص الذي يعمل وفق معايير الربح السريع فقط.

التحديات الإنتاجية: ذريعة للتخلي عن مسؤولية الدولة في الحل

أضاف الوزير: «مع أن الحرب الظالمة على سورية أدت إلى خروج نسبة كبيرة من المنشآت الصناعية عن العمل إلا أن ذلك لا ينفي الارتفاع الواضح في تكاليف العمليات التصنيعية لدى مؤسسات وشركات القطاع العام جميعها، نتيجة لمجموعة من العوامل أبرزها عدم وجود سياسة صناعية أو رؤية واضحة، والتقادم التكنولوجي لوسائل الإنتاج في الشركات والمعامل والحاجة للاستبدال والتجديد، وارتفاع تكاليف التمويل، إضافة إلى الفساد وغياب النزاهة والإدارات المترهلة، وفائض إجمالي في العمالة مع نقص في العمالة النوعية، وعدم تطبيق مبادئ الحوكمة والشفافية في العمل الإداري والمالي، إلى جانب عدم وجود أنظمة تكاليف دقيقة».
ما طرحه الوزير عن التحديات يعكس واقعاً صعباً لكنه ليس مبرراً للانسحاب أو تقليص دور الدولة. هذه التحديات ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج تراكمي للسياسات الاقتصادية في سورية، وتتطلب معالجتها بحلول حقيقية، وليس الاكتفاء بتشخيص الأعراض واستنتاج ضرورة تخلي الدولة عن مسؤوليتها.
وخروج نسبة كبيرة من المنشآت الصناعية عن العمل خلال الحرب لم يكن بفعل الحرب وحدها، بل أيضاً بفعل السياسات الاقتصادية المستمرة في البلاد. وفي جميع الأحوال، فإن ضعف البنية الإنتاجية يستدعي إعادة تأهيل وتطوير المنشآت المتضررة، لا تركها تواجه مصيرها دون دعم.
وصحيح أن التقادم التكنولوجي والحاجة إلى الاستبدال والتجديد يشكلان تحدياً، لكن ما تجاهله الوزير هو أن هذا التحدي يدخل في صلب العملية الإنتاجية أصلاً، وهو تحدٍّ قائم سواء كان الطرف المنتج عامّاً أو خاصّاً، ولا يمكن فهمه كمبرر لتصفية الصناعات الحكومية.
أما ارتفاع تكاليف التمويل وغياب الكفاءات النوعية، إلى جانب وجود فائض في العمالة، فهي مشكلات حقيقية لا يمكن تجاهلها. لكنها تثير أسئلة غير مرغوبة من جانب الحكومة: فمن أضعف القدرة الشرائية لليرة السورية؟ ومن بدّد المصادر الحقيقية لإيرادات الدولة وتغافل عن أجزاء واسعة منها؟ ومن جرّف الكفاءات النوعية بفعل منظومة الأجور الهزيلة في البلاد؟ ثم إذا كانت هناك إدارات مترهلة وفساد مستشرٍ، فاجتثاث هذا الفساد يجب أن يكون أولوية قصوى، وليس ذريعة للتخلي عن المؤسسات العامة.
الدولة، بمسؤوليتها الاقتصادية الاجتماعية، مطالبة بتحمل هذه التحديات وإيجاد حلول فعلية لها، بدلاً من التخلي عن القطاعات الإنتاجية لصالح منطق السوق الخاص الذي لا يأخذ بعين الاعتبار سوى الربح الفوري.

1200-20

القطاع الخاص كبديل للدولة: رؤية رأسمالية تخدم مصالح النخب

وفي نهاية تصريحه، أشار الوزير إلى «وجود توافق واسع بين المختصين في العالم على أن أسس الاقتصاد الحديث وضمان الاستدامة في النمو تتطلب إقامة نماذج اقتصادية يلعب الدور المحوري فيها القطاع الخاص، مع تقليص الدور الحكومي بشكل مدروس، وذلك لاعتبارات الكفاءة والفعالية وضمان الاستخدام الأمثل للموارد، وبشكل خاص في ظل المحدودية الكبيرة للموارد».
إن الحديث عن «توافق واسع بين المختصين في العالم» على ضرورة أن يكون للقطاع الخاص الدور المحوري في الاقتصاد، مع تقليص دور الدولة، هو ادعاء يحتاج إلى دحض قوي. في الحقيقة، لا يوجد مثل هذا «التوافق» بين الاقتصاديين من مختلف التيارات الفكرية والاقتصادية. بل إن هذا التوجه هو بالأساس رؤية تروّج لها النخب الرأسمالية، والتي تملك مصلحة مباشرة في تعزيز سيطرة رأس المال الخاص على الاقتصاد وتقليص دور الدولة، بهدف تحقيق مكاسب أكبر وتحكم أوسع في موارد الإنتاج.
تعكس فكرة تقليص دور الدولة وجعل القطاع الخاص المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي رؤية رأسمالية خالصة لطالما روجت لها المؤسسات الدولية الكبرى، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تحركها أجندات خاصة. ويقوم هذا الطرح على فكرة أن القطاع الخاص قادر على تحقيق الكفاءة والنمو بشكل أفضل، متجاهلاً التجارب العديدة التي أظهرت كيف يؤدي تحرير الأسواق من تدخل حكومي إلى أزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة وزيادة معدلات الفقر وتركيز الثروات في أيدي فئة قليلة، وخلق احتكارات تخنق المنافسة وتضر بالمستهلكين. وتُظهر النماذج الاقتصادية القائمة على دور محوري للدولة في التخطيط والتوجيه، مثل تجارب العديد من الدول الصناعية الكبرى في مراحل مختلفة من تاريخها، أن للدولة دوراً لا غنى عنه في حماية الاقتصاد من الأزمات وضمان العدالة الاجتماعية.

إضعاف القطاع العام: الوجه الحقيقي لـ«الانتقال إلى التنظيم»

يتضح مما سبق أن فكرة «الانتقال من التشغيل إلى التنظيم» ليست سوى قناع لمشروع أوسع يهدف إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد، مما يهدد بفقدان السيطرة على القطاعات الحيوية وإضعاف الاقتصاد الوطني. ما يبدو في ظاهره توجهاً للإصلاح وتحقيق الكفاءة، يخفي في جوهره مخاطر عميقة تتمثل في تسليم زمام الإنتاج والخدمات للمصالح الخاصة التي تعمل وفق منطق الربح فقط، دون اعتبار للعدالة الاجتماعية أو الاستقرار الوطني.
بدلاً من التخلي عن القطاعات العامة أو تقليص دور الدولة، يجب أن ينصبّ التركيز على التغيير الحقيقي: اجتثاث الفساد الكبير، وتغيير أساليب الإدارة، وتعزيز الإنتاجية والكفاءة من خلال تطوير البنية التحتية والكوادر البشرية. فالحلول الحقيقية تأتي عبر تقوية القطاع العام وضمان قدرته على تحقيق التنمية الشاملة، وليس عبر الانسحاب. الدولة، بما يجب أن تمثله من قوة دافعة للاقتصاد وحامية للمصالح العامة، يجب أن تبقى في قلب النشاط الاقتصادي، قادرة على توجيهه بما يحقق المصلحة الوطنية، بعيداً عن منطق السوق الضيق والمصالح الخاصة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1200