الاقتصاد الألماني في مرحلة ركود .. تحليل شامل لعام 2024
تقرير رسمي حكومي تقرير رسمي حكومي

الاقتصاد الألماني في مرحلة ركود .. تحليل شامل لعام 2024

منذ ما يقارب العامين، يمر الاقتصاد الألماني بمرحلة من الركود والتباطؤ، مما يشير إلى تغيرات جوهرية تعصف بأكبر اقتصاد في أوروبا. كلّفت «وزارة الاقتصاد وحماية المناخ الألمانية الاتحادية» عدّة مؤسسات أكاديمية بحثية بإعداد تقرير شامل عن الاقتصاد الألماني، والاقتصادات العالمية الأخرى. وفقاً لهذا التقرير فإنّ الأداء الاقتصادي الألماني لا يزال ضعيفاً، مع توقعات بنمو محدود في المستقبل القريب. في هذا المقال، سنلقي نظرة على أبرز ما جاء في هذا التقرير عبر التركيز على العوامل التي ساهمت في هذا الركود - بحسب التقرير فقط، ومناقشة التحديات التي رأى التقرير بأنّ الاقتصاد الألماني يواجهها، خاصة في قطاع الصناعات التحويلية التي تعتبر عصب الصناعة الألمانية.

ترجمة: قاسيون

من المهم أن ندرك بأننا نورد بعض الكلمات والأفكار الواردة في التقرير دون تبنيها، ولكن لتبقَ ضمن السياق المُشار إليه من معدّي التقرير. فكلمات مثل «الاعتماد على اقتصاد أقل اعتماداً على الكربون»، هي كلمات تعبيرية دخلت المعجم الأوروبي كنوع من التبرير لمقاطعة الغاز الروسي، وليس لها دخل بمصالح الاقتصاد والمجتمع الألماني، أو إعطاء العامل الديمغرافي وزناً كبيراً جداً في الاضطرار للاعتماد على الاستيراد بدل الإنتاج.

الركود الاقتصادي وتأثيره على النمو

يشير التقرير إلى أنّ الاقتصاد الألماني يعاني من تباطؤ ملحوظ في النمو، حيث لم يتمكّن من العودة إلى المستويات التي كان عليها قبل جائحة كوفيد-19. يُتوقَّع أن يشهد الناتج المحلي الإجمالي انخفاضاً بنسبة 0.1% في نهاية عام 2024، مع تعافٍ بطيء يمتد على مدى السنوات التالية. هذه التوقعات المنخفضة للنمو تعود إلى عوامل هيكلية، أبرزها الانتقال نحو اقتصاد أقل اعتماداً على الكربون، إضافة إلى التحديات الرقمية والتغيرات الديموغرافية التي تفرض عبئاً على النظام الاقتصادي.
كما يُلاحظ أن التحولات الهيكلية في الاقتصاد الألماني تسير ببطء، مما يؤثر سلباً على الانتعاش الاقتصادي. هذا التباطؤ الهيكلي يعني أن الاقتصاد الألماني لن يتمكن بسهولة من تحقيق معدلات النمو التي شهدها قبل الجائحة. ويُعتبر التحول نحو اقتصاد خالٍ من الكربون، والذي يستهدف خفض الانبعاثات وتطوير تقنيات الطاقة المتجددة، أحد أبرز التحديات التي تتطلب استثمارات ضخمة وتغييراً جذرياً في نمط الإنتاج.

التحديات الهيكلية

يشير التقرير إلى أنّ التحول البيئي «أو ما يُعرف بالتحول الأخضر» يمثّل أحد أبرز العوامل التي تؤثر في الاقتصاد الألماني. تعمل ألمانيا على تحقيق أهداف بيئية صارمة تهدف إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتحقيق تحول كامل نحو الطاقة المتجددة بحلول عام 2045. يشمل هذا التحول تقليل انبعاثات الكربون في قطاع الصناعة، وتعزيز استخدام الطاقة النظيفة. إلا أن هذا التغيير الهيكلي يأتي بتكاليف باهظة، خاصة على الصناعات التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة مثل الصناعات الثقيلة، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاجية وارتفاع التكاليف التشغيلية.
بالإضافة إلى التحول البيئي، تواجه ألمانيا تحديات كبيرة في مجال الرقمنة (التحول الرقمي)، الذي يعدّ من العوامل الضرورية لتعزيز النمو في الاقتصاد الحديث، إلا أنّ ألمانيا تواجه صعوبة في تسريع وتيرة التحول الرقمي، خاصة في القطاعات التقليدية مثل التصنيع والبنوك. وقد أدى ذلك إلى ضعف التنافسية، حيث تتقدم دول أخرى في مجال التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي و«إنترنت الأشياء»، ممّا يجعل ألمانيا عُرضة لتحديات المنافسة العالمية.
يشكّل التغير الديموغرافي أيضاً تحدياً كبيراً، حيث يشهد المجتمع الألماني تزايداً في نسبة كبار السن وتراجعاً في معدلات الولادة. يؤدي هذا التحول الديموغرافي إلى نقص في القوى العاملة، ويفرض ضغوطاً إضافية على النظام الضريبي ونظام الرعاية الاجتماعية. من المتوقع أن تؤثر هذه التغيرات على النمو الاقتصادي، حيث تقلل من الإنتاجية وتزيد من الاعتماد على الاستيراد، مما يزيد من العجز التجاري ويثقل كاهل الاقتصاد.

الصناعات التحويلية الألمانية

ربّما أبرز ما تطرّق إليه التقرير هو قطّاع الصناعات التحويلية، الذي كان يمثل ركيزة قوية لنمو الاقتصاد الوطني، وعِمادَ النموُّ الاقتصادي الألماني في احتلال ريادته العالمية؛ ويشمل مجالات حيوية مثل السيارات والآلات الثقيلة والمنتجات الكيميائية. إلا أن هذا القطاع يواجه في السنوات الأخيرة تحديات هيكلية أثّرت سلباً على أدائه وأضعفت مساهمتَه في الناتج المحلي الإجمالي.

يُرجِع التقرير التراجع في هذا القطاع إلى عوامل متعددة...

1- الارتفاع الكبير في تكاليف الطاقة: الذي تواجهه الصناعات التحويلية، ولا سيّما بعد الحرب في أوكرانيا التي أدت إلى اضطرابات في إمدادات الغاز الطبيعي والنفط. فباتت ألمانيا، التي كانت تعتمد بشكل كبير على الطاقة المستوردة من روسيا، مجبرةً على التحول إلى مصادر بديلة وأكثر تكلفة، مما أدى إلى زيادة كبيرة في تكاليف الإنتاج، خاصة في الصناعات الثقيلة التي تتطلب استهلاكاً عالياً للطاقة.
2- التحول نحو الاقتصاد الأخضر: يتطلب الامتثال لهذه المعايير استثمارات كبيرة في التكنولوجيا الخضراء، وهذا يضيف عبئاً مالياً على الشركات التحويلية، خاصة في قطاعات مثل السيارات والصناعات الكيميائية.
3- تزايد حدة المنافسة مع الصين في الأسواق العالمية: حيث تسعى الشركات الصينية إلى اقتحام مجالات لطالما كانت الشركات الألمانية هي المهيمنة عليها، مثل صناعة السيارات الكهربائية والمعدات الصناعية. نتيجة لذلك، شهدت الصادرات الألمانية إلى الصين تراجعاً كبيراً، في حين أنّ السوق العالمية بدأت تشهد انخفاضاً في الطلب على المنتجات الألمانية التقليدية بسبب منافسة المنتجات الصينية التي تتميز بجودة متزايدة وأسعار تنافسية.
4- تباطؤ الطلب العالمي: يعاني قطاع الصناعات التحويلية من ضعف الطلب العالمي، حيث تراجعت الطلبات الجديدة على المنتجات الألمانية، ولا سيّما في الأسواق الآسيوية والأمريكية. هذا التباطؤ في الطلب، خاصة من الأسواق الرئيسية، أثّر سلباً على صادرات ألمانيا وجعل قطاع الصناعات التحويلية أقلّ استقراراً. 5- نقص العمالة المتخصّصة: يواجه قطاع الصناعات التحويلية تحدياً كبيراً يتمثل في نقص العمالة المؤهلة، حيث يعاني الاقتصاد الألماني من تبعات تقلص عدد السكان في سن العمل. تجد الشركات صعوبة في العثور على عمالة مدرَّبة في مجالات تخصّصية معينة، مثل الهندسة والتقنية، مما يؤثر على إنتاجية القطاع وقدرته على مواكبة التغيرات التكنولوجية. بالإضافة إلى صعوبة استقطاب المواهب الدولية بسبب الإجراءات البيروقراطية المعقَّدة وتحدّيات اللّغة.

تأثير تراجع قطاع الصناعات التحويلية

 انخفاض الناتج المحلي الإجمالي: يمثل قطاع الصناعات التحويلية نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي الألماني، وبالتالي فإن أي تراجع في هذا القطاع يؤثر مباشرة على النمو الاقتصادي الكلي. يشير التقرير إلى أن تراجع القطاع الصناعي يعد سبباً رئيسياً لعدم قدرة الاقتصاد الألماني على تحقيق نمو يتماشى مع فترات ما قبل جائحة كوفيد-19.
 تراجع الصادرات: تعتبر ألمانيا من أبرز الدول المصدّرة في العالم، ويشكل قطّاع الصناعات التحويلية العمود الفقري لصادراتها. ومع تراجع الطلب العالمي والمنافسة الشديدة من الصين، شهدت الصادرات الألمانية انخفاضاً ملحوظاً، مما أثّر سلباً على الميزان التجاري للبلاد.
 تأثير سلبي على سوق العمل: يعمل العديد من الأفراد في قطاع الصناعات التحويلية، وتراجُع هذا القطاع يؤدي إلى تقليص فرص العمل وزيادة البطالة في بعض المناطق التي تعتمد بشكل كبير على هذه الصناعات. كما أن ارتفاع تكاليف الإنتاج دفع بعض الشركات إلى نقل جزء من إنتاجها إلى دول ذات تكاليف أقلّ، مما يهدِّد مستقبل العديد من الوظائف الصناعية داخل ألمانيا.
يشير التقرير إلى أنّ قطاع الصناعات التحويلية الألماني قد يواجه صعوبة في التعافي السريع، حيث لا يُتوقَّع أن يعود إلى مستويات الإنتاج والطلب التي كان عليها قبل الجائحة. ويعتمد مستقبل القطاع بشكل كبير على قدرة الشركات على التكيف مع التحولات البيئية والتقنية التي يمكن أن تضمن استمرارية هذا القطاع.

التضخم والبطالة

بلغ التضخم في ألمانيا مستويات مرتفعة نسبياً، إلّا أنّ التقرير يتوقَّع أنْ ينخفض إلى 2% تقريباً بحلول عام 2025 و2026، وهي مستويات تتماشى مع هدف البنك المركزي الأوروبي. ورغم هذا التراجع المتوقع، إلا أن التضخم لا يزال يشكل تحدياً، خاصة مع ارتفاع أسعار الخدمات والإيجارات. تزيد أسعار الطاقة المتقلبة والضغوط الجيوسياسية من تعقيد الوضع الاقتصادي وتؤدّي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج.
من جهة أخرى، تسجِّل البطالة في ألمانيا مستويات مستقرّة نسبياً، حيث يتوقَّع أن تبلغ حوالي 6% خلال العامين الحالي والقادم. تعتبر نسبة البطالة هذه تحدياً أمام الحكومة الألمانية التي تسعى لتعزيز النشاط الاقتصادي وخفض معدلات البطالة. إنّ الاستقرار النسبي في معدل البطالة يعود بشكل رئيسي إلى توسع قطاع الخدمات، حيث يُوظَّف العديد من الأفراد في قطاعات مثل الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الاجتماعية. ومع ذلك، فإنّ قطاع التصنيع، الذي يعتبر من أكبر القطاعات توظيفاً، شهد تراجعاً في معدَّلات التوظيف نتيجة انخفاض الطلب، حيث تضطر العديد من الشركات إلى تقليص أعداد العاملين أو تجميد التوظيف بسبب التحديات الاقتصادية.

التضخم والسياسات النقدية

يعاني الاقتصاد الألماني من ارتفاع التضخّم، مما أثر على القوة الشرائية للمستهلكين وزاد من تكاليف الإنتاج. يوضّح التقرير أنّ التضخم الحالي يأتي نتيجة عدة عوامل، أهمها ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، إضافة إلى اضطرابات سلاسل التوريد العالمية، التي تسببت في ارتفاع أسعار السلع والخدمات.
إحدى أهم الخطوات التي اتخذتها الحكومة الألمانية والبنك المركزي الأوروبي لمواجهة هذا التضخم هي السياسات النقدية المتشددة، حيث اتجه البنك المركزي الأوروبي إلى رفع أسعار الفائدة للحد من التضخم، مما أدى إلى زيادة تكاليف الاقتراض وتراجع الاستثمارات. إلا أن التوقعات التي يتبناها التقرير تشير إلى أن التضخم سيبدأ في الانخفاض تدريجياً ليصل إلى مستويات أكثر استقراراً حول 2% بحلول عام 2025.
وفقاً للتقرير، يكمن التحدي في هذه السياسات في تحقيق توازن بين الحد من التضخم دون التأثير السلبي على النمو الاقتصادي. فالارتفاع المستمر في أسعار الفائدة قد يؤدي إلى ركود اقتصادي أكبر ويزيد من حدة التباطؤ الذي يعاني منه الاقتصاد الألماني. لهذا السبب، ينصح الخبراء بضرورة تبني سياسات مالية داعمة للنمو على المستوى الوطني، بالتزامن مع السياسات النقدية الصارمة التي يتبعها البنك المركزي الأوروبي.

توصيات التقرير

مع استمرار التحديات، يرى التقرير أن هناك حاجة ماسة لسياسات اقتصادية تُركز على تعزيز الإنتاجية وتخفيف العوائق التي تواجه الشركات. ويوصي التقرير بضرورة تخفيف البيروقراطية وتسهيل الإجراءات للشركات الناشئة، بالإضافة إلى تقديم دعم مالي للشركات التي تستثمر في التقنيات المتقدمة.
كما يشير التقرير إلى أهمية التعليم والتدريب المستمر للقوى العاملة الألمانية، لضمان جاهزيتها لمتطلبات السوق المتغيرة. ويوصي أيضاً بزيادة الاستثمارات في البحث والتطوير، خاصة في مجالات التكنولوجيا والطاقة النظيفة، مما يعزز من التنافسية الألمانية في السوق العالمي.
ويعالج التقرير بشكل خاص مسألة السياسة النقدية المتشددة التي قد تؤثر سلباً على الاقتصاد، حيث ينصح بتبني سياسات مالية داعمة للنمو، تشمل تقديم حوافز للشركات المتضررة من الأزمات وتوسيع برامج الدعم الاجتماعي لمساعدة الأسر المتضررة من التضخم.

بعض الإشارات خارج ألمانيا

يتحدّث التقرير عن النمو والمشاكل الاقتصادية لدى الاقتصادات الكبرى الأخرى التي يمكن أن تعتبر كمنافسة أو كشريكة متكاملة مع ألمانيا، وهي الصين، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي. وبغض النظر عن مدى صوابية التحليلات في التقرير، فهو ينطلق من مدى تأثّر هذه الاقتصادات وتأثيرها في الاقتصاد الألماني.
يتحدّث التقرير عن الصين، فيشير إلى أنّ المنافسة التجارية بين ألمانيا والصين قد ازدادت بشكل كبير في هذا العام 2024. يقول بأنّ الصين مستمرة في السعي إلى تعزيز قدرتها الصناعية وتقليل اعتمادها على الواردات الأجنبية، مما أثَّر بشكل مباشر على صادرات ألمانيا، خصوصاً في القطاعات الحيوية مثل صناعة الآلات والمَرْكبات. أدَّت مبادرة «صُنِع في الصين 2025» إلى تحسين تنافسية الصين، مما أدى إلى تراجع صادرات ألمانيا إلى الصين منذ عام 2022 بنحو 15%، وهذا يؤثر على القدرة التنافسية لألمانيا بشكل عام​.
ويقول التقرير بأنّه من المتوقع أن يستمر فقدان حصة ألمانيا في السوق العالمية لصالح الصين بسبب استمرار الصين في سياساتها التجارية والصناعية النشطة، مما يعني أن صادرات ألمانيا قد تبقى أقل ديناميكية مقارنة بتوسع التجارة العالمية​.
أمّا بالنسبة للولايات المتحدة، فيرى التقرير أنّ ألمانيا قد استفادت من الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة بعد جائحة كوفيد-19، حيث شهدت صادراتها تحسناً بسبب النشاط الاقتصادي الأمريكي القوي. إلّا أنّ هذا التحسن مهدد مع تباطؤ الاقتصاد الأمريكي الحالي، مما قد يؤثر على الطلب على المنتجات الألمانية ويقلل من مساهمة السوق الأمريكية في دعم الصادرات الألمانية​.
وفيما يخصّ الاتحاد الأوروبي، فقد شهدت ألمانيا تراجعاً في تجارتها مع دول الاتحاد الأوروبي، حيث يعتمد اقتصاد الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر على الاستهلاك المحلي بدلاً من السلع المستوردة غير المالية، وهي فئة تتعلق بشكل كبير بالصادرات الألمانية. أدى هذا التوجه إلى ضعف نمو صادرات ألمانيا داخل السوق الأوروبية الموحدة​.
لكن ينوّه التقرير بأنّه رغم تراجع النشاط الصناعي الأوروبي، فإن قطاع الخدمات في الاتحاد الأوروبي شهد انتعاشاً، مما ساهم في دعم الاقتصاد الأوروبي ككل. ومع ذلك، فإن الركود في القطاع الصناعي في الاتحاد الأوروبي ككل يترك أثراً سلبياً على الشركات الألمانية​.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1200