ما العلاقة بين السياسات الاقتصادية في سورية ووصفات صندوق النقد الدولي ؟
تتكرر في سورية تصريحات رسمية حول العجز المتفاقم في الموازنة العامة، حيث بلغ هذا العجز المقدّر في موازنة 2025 نحو 21%. وتتزامن هذه التصريحات مع تسريع القرارات التي تقلّص دور الدولة الاجتماعي، مما يؤدي إلى تراجع الدعم الحكومي تحت مسميات مثل «عقلنة» الدعم أو «توجيهه إلى مستحقيه». ويأتي هذا النمط من الإجراءات في سياقٍ يصل حدّ التطابق مع وصفات صندوق النقد الدولي الموجّهة «لمعالجة» عجز الموازنة، وهي وصفات جربتها العديد من الدول وأسفرت عن نتائج مدمرة.
عند مقارنة تصريحات المسؤولين السوريين حول قضايا عجز الموازنة والدعم، تتكشف لنا أوجه الشبه بين النهج السوري الحالي في التعامل مع العجز، وبين الوصفات الاقتصادية التي يطرحها صندوق النقد الدولي. وتتلخص وجهة نظر الصندوق في أن التدخل الحكومي المكثف في الاقتصاد يُثقل كاهل الموازنة، ويؤدي إلى تفاقم التضخم والبطالة ويعزز عجز الميزان التجاري، مما يضعف النمو الاقتصادي والإنتاجية. ومن هذا المنطلق، تقترح سياسات الصندوق أن الحل الأمثل يكمن في تقليص النفقات الحكومية، لا سيما فيما يتعلق بالإنفاق على الخدمات والدعم، مع تعزيز دور القطاع الخاص وتحجيم دور الدولة إلى أقصى حد. ويبدو أن سورية تطبق هذا النهج بحذافيره، بينما تعاني موازنتها العامة من تداعيات التطبيق التاريخي في سورية لهذه الوصفات.
تخلي الدولة عن وحداتها الإنتاجية وخطط تصفية القطاع العام
يحث الصندوق الدول المتعثرة اقتصادياً على التخلص من أعباء القطاع العام، لا سيما الشركات الإنتاجية التي لا تحقق أرباحاً كافية لتغطية تكاليفها، حيث يشمل هذا التخلص تصفية هذه الشركات أو بيعها للقطاع الخاص. ومن منظور الصندوق، فإن القطاع العام «الخاسر» يشكل عبئاً على موارد الدولة ويؤدي إلى هدر الأموال العامة.
في سورية، تم تكييف هذه التوصيات عبر عمليات دمج وتصفية شملت حتى القطاعات الرابحة، مثل الصناعات التحويلية، وهو ما يعكس رؤية تتعمَّد إضعاف الدور الاجتماعي للدولة، بهدف تحويل مجمل النشاط الاقتصادي تدريجياً إلى أيدي القلة الناهبة للاقتصاد الوطني، وبالتالي تحميل المواطنين عبء التكاليف الحقيقية للخدمات والسلع الأساسية.
تقليص الدعم «بالتدريج»...
يشدِّد صندوق النقد الدولي على ضرورة تقليص الإنفاق على السلع المدعومة تدريجياً وصولاً إلى إلغائه بالكامل، مع رفع أسعار السلع التموينية والخدمات الضرورية لتغطي تكاليفها الفعلية.
ورغم أن الصندوق يوصي بتطبيق هذه السياسة تدريجياً لتفادي ردود الفعل السلبية من السكان، فإن سورية لم تطبق هذه التوصية، بل قامت بخفض الدعم الحكومي بشكل متسارع، ما انعكس في ارتفاع هائل في تكاليف المعيشة. فبين عامي 2014 و2024، زادت تكاليف المعيشة بنحو 135 ضعفاً، فيما لم تزد الأجور إلا بنسبة 20 ضعفاً، مما أدى إلى تدهور حاد في القدرة الشرائية، وأجبر شرائح واسعة من المجتمع على تحمل الأعباء المالية المترتبة على ذلك.
زيادة أسعار الطاقة والخدمات العامة ضمن «حزمة الإصلاحات الاقتصادية»
تُعتبر زيادة أسعار الطاقة من أهم توصيات الصندوق التي تهدف إلى «تحقيق توازن» في الموازنة العامة عبر تقليص الدعم الحكومي الموجه للطاقة. وقد طبقت الحكومة السورية هذه السياسة على مراحل عدة، حيث رفعت الدعم عن البنزين، في حين ارتفعت أسعار المازوت المدعوم من 180 ليرة في عام 2020 إلى حوالي 5000 ليرة في عام 2024، أي بزيادة تفوق 2677%. كما شهد المازوت الصناعي والتجاري قفزة من 650 ليرة إلى 11500 ليرة، بزيادة تصل إلى 1669%، بينما ارتفع سعر البنزين أوكتان 95 من 575 ليرة في 2020 إلى 13500 ليرة، أي بنسبة 2247%. ولم تؤثر هذه الزيادات على القدرة الشرائية فحسب، بل أسفرت أيضاً عن ارتفاع كبير في تكاليف النقل والمواصلات والخدمات العامة، حيث تكبد المواطنون تكلفة هذه الخدمات مع تدني قدرتهم على التكيف مع هذه الزيادات.
تخفيض النفقات الاستثمارية العامة ودورها في تباطؤ التنمية
يوصي صندوق النقد الدولي بأن يتم الحد من الإنفاق الاستثماري الحكومي، معتبراً أن الحكومة يجب أن تركز على الإنفاق الجاري بشكلٍ أكبر. وتشير بيانات الموازنات السورية إلى التزام صارم بهذا المبدأ، حيث كانت النفقات الاستثمارية تنخفض باستمرار حتى وصلت إلى حدود 18% فقط من إجمالي الموازنة في 2023 مقارنة بنسبة 46% في 2011، وحتى في ارتفاعها إلى 30% في موازنة العام 2025 التي تم الإعلان عنها مؤخراً، كانت متزامنة مع ارتفاع سعر صرف الدولار المعتمد في الموازنة بنسبة 17%، ما يجعل الزيادة الحقيقية في الموازنة أقل مما هو مُعلن، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار معدلات التضخم المرتفعة التي بلغت 122% في منتصف عام 2024.
ويعني هذا التراجع في الاستثمار العام، أن الدولة قد تراجعت في دعم البنية التحتية وتطوير الخدمات العامة والمشاريع التنموية، مما يضعف الأسس الاقتصادية للبلاد، ويزيد من الضغوط على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود. هذا ولم نتحدث بعد عن العائدية المنخفضة لليرة السورية في الاستثمارات، والتي وصلت في عام 2015 على سبيل المثال إلى نسبة تقارب 11.6%، وهي بالتأكيد اليوم أقل من ذلك.
الإعفاءات الضريبية للشركات الخاصة وأثرها على العائدات الحكومية
يشدد الصندوق في وصفاته على ضرورة تشجيع الاستثمار الخاص عبر تقليل الضرائب على أرباح الشركات، ومنح إعفاءات ضريبية تسهم في زيادة نشاط القطاع الخاص.
ورغم أن الصندوق يوصي بأن تكون نسبة العائدات الضريبية من الناتج المحلي لا تقل عن 15%، فإن نسبة العائدات الضريبية في سورية لم تتجاوز 8.3%، مع انتشار واسع للتهرب الضريبي بين كبار أصحاب رؤوس الأموال. فمثلاً، قدرت خسائر التهرب الضريبي بما لا يقل عن 2.5 تريليون ليرة في عام 2022.
هذا يعني أن الدولة لم تكتف بتطبيق توصيات الصندوق، بل تجاوزت حدودها مما أدى إلى تقليص مواردها الضريبية بشكل حاد، لتزداد بذلك الأعباء المالية على الفئات الفقيرة.
الأثر الاجتماعي والاقتصادي لتطبيق السياسات المالية المقترحة
يُظهر واقع التطبيق السوري لوصفات الصندوق نتائج مشابهة لما حدث في دول أخرى، حيث تسببت هذه السياسات في إضعاف قدرة الدولة على توفير الحماية الاجتماعية للمواطنين، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتفاقم الفجوة الطبقية.
ومنذ تطبيق هذه السياسات، ومع كل تسارع في تطبيقها، تزداد صعوبات المعيشة على معظم شرائح المجتمع، ويتفاقم تدهور الوضع المعيشي، حيث ازدادت الضغوط المالية على الأسر، وتراجع مستوى الخدمات العامة. وقد دفعت هذه التحولات عدداً إضافياً من المواطنين إلى ما دون الحد الأدنى للفقر، وأثرت على الاستقرار الاجتماعي.
وتؤكد التجارب السابقة للعديد من الدول التي طبقت سياسات صندوق النقد الدولي أن التبعات غالباً ما تكون مؤلمة على المجتمع، حيث تؤدي هذه السياسات إلى انهيار في منظومة الحماية الاجتماعية، وانخفاض في الخدمات العامة، وركود اقتصادي طويل الأمد، وهو ما رأيناه بأم أعيننا في الانفجار السوري.
وفي كثير من الحالات السابقة التي طبقت الوصفات، ارتفعت معدلات الهجرة هرباً من تدهور الظروف الاقتصادية والمعيشية. ويزداد الأمر سوءاً مع ارتفاع معدلات الدين العام نتيجة للاستدانة المستمرة، مما ساهم في انكماش اقتصادي مستمر.
التقييد الديمقراطي وقمع الأصوات المطالبة بالتغيير
من الملاحظ أن تطبيق سياسات صندوق النقد ارتبط دائماً بتقليص مساحة الديمقراطية في الدول المعنية، حيث تواجه الحكومات التي تتبنى هذه السياسات رفضاً شعبياً وارتفاعاً في مستويات عدم الرضا الاجتماعي يتزايد مع مرور الوقت.
ولضمان استقرارها، تضطر هذه الحكومات إلى فرض قيود متزايدة على حرية التعبير وقمع الأصوات الاحتجاجية المطالبة بحقوقها الأساسية. وبناءً عليه، تغدو وصفات الصندوق بمثابة «كلمة سر» تهدف إلى ضرب عوامل الاستقرار الاجتماعي في الدول المعنية.
إجراءات صارمة لوصفات معروفة النتائج مسبقاً
كانت أمام سورية قائمة طويلة من الدول التي قررت الإذعان لإملاءات صندوق النقد الدولي. وفي جميع تلك الحالات، انطوت وصفات الصندوق على إجراءات من شأنها تخفيض الموارد الحكومية في نهاية المطاف، وصولاً إلى وضعٍ لا يعود فيه أمام الدولة التي تذعن لهذه السياسات سوى تخفيض حجم إنفاقها الجاري الموجه للخدمات الاجتماعية وتجميد الاستثمارات العامة وحصرها في أضيق الحدود. وهي المفاصل التي تضر في الصميم مصالح الفقراء ومحدودي الدخل وتؤدي إلى إبطاء أو حتى إيقاف عجلة النمو الاقتصادي.
وقد انتهى المطاف بجميع الدول التي التزمت بوصفات صندوق النقد الدولي إلى حدوث انهيارات اقتصادية ومالية واضحة، وتفاقم الركود التضخمي فيها، وإلى تفاوت شديد في توزيع الثروة، مع تعريض مستوى المعيشة لأغلبية السكان لتدهورٍ شديد، وإلى نمو حجم الدين العام، وزيادة هروب وتهريب الأموال للخارج.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1199