خطّة حزب العمال البريطاني: تمخّض الجبل فولد فأراً!
مايكل روبرتس مايكل روبرتس

خطّة حزب العمال البريطاني: تمخّض الجبل فولد فأراً!

عندما كانت ريتشل ريفز، وزيرة المالية البريطانية الجديدة «التي يطلق عليها بشكل غريب وزيرة الخزانة»، في واشنطن قبل الانتخابات البريطانية الأخيرة، أخبرت جمهورها أنّ «العولمة، كما عرفناها ذات يوم، ماتت»، وقد كانت محقّة. توقفت الطفرة العظيمة في التجارة العالمية التي بدأت منذ تسعينيات القرن العشرين فجأة، بعد الركود في عامي 2008 و2009، ومنذ ذلك الحين ركدت التجارة العالمية بشكل أساسي. وجد ذلك تعبيراته في المملكة المتحدة، التي تعاني الآن من أكبر عجز تجاري في تاريخها، والأمر لا يقتصر على التجارة فقط.

ترجمة: قاسيون

تدهور الاستثمار الأجنبي، وهو الأمر الذي اعتمد عليه رأس المال البريطاني بشكل متزايد منذ ثمانينيات القرن العشرين. كما أصبحت المملكة المتحدة تحصل على استثمارات أقل إنتاجية من الشركات الأجنبية في الاقتصاد. انخفض عدد مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر التي تصل إلى المملكة المتحدة بنسبة 6% على أساس سنوي خلال العامين الماضيين، ليصل إلى أدنى مستوى له عند 1555 مشروعاً في عام 2023. يمثل هذا انخفاضاً كبيراً بنسبة 16% منذ الوباء.
لقد كانت جائحة كوفيد-19 هي القشّة الأخيرة، فقد انهارت سلاسل التوريد العالمية، وانكمش حجم التجارة والاستثمار. كما أنّ النمو الاقتصادي العالمي يتباطأ ــ يصفه صندوق النقد الدولي بأنه «عشرينيات فاترة» ويتوقع البنك الدولي أسوأ معدلات نمو في ثلاثين عاماً. بات من الواضح لريفز أن بريطانيا لم تعد قادرة على الاعتماد على التوسع العالمي.
وهكذا أصبح لدينا «Securonomics اقتصاد الأمان»، وهو ما يعني في الواقع نهجاً قومياً في التعامل مع الاقتصاد. الشعار السائد بين العديد من اقتصادات مجموعة السبع هو «الاستراتيجية الصناعية». أصبح مصطلح «الأسواق الحرة» خارج التداول، ويتعيّن على الحكومات أن تعمل بسياسات توجّه، وتشجّع قطاعاتها الرأسمالية على الاستثمار والإنتاج في «المجالات الصحيحة» لتعزيز النمو الاقتصادي. في حين أنّ سياسات اليابان والهند وأمريكا في أغلبها مزيجٌ من سياسات قديمة الطراز من التحفيز الضريبي والائتماني على غرار سياسات كينز لتعزيز «الطلب الكلي» والعمالة، إلى جانب تدابير بنيوية نيوليبرالية لإضعاف الحركة العمّالية وخصخصة أصول الدولة، تزعم ريفز أنّ «اقتصاد الأمان» مختلف.
تقول ريفز: إنّ الدولة «النشطة» قادرة على ضمان أمن الشركات وتوفير «منصّة» من الأمان يمكن من خلالها «دفع النمو الاقتصادي المستدام»، ووفقاً لها يعني هذا «أن نكون مؤيدين للأعمال والعمّال… يعني اقتصاد الأمان الاعتماد على دولة ديناميكية واستراتيجية… ولكن لا يعني حكومة متنامية باستمرار، بل حكومة أكثر نشاطاً وذكاءً، تعمل في شراكة مع الشركات والنقابات العمالية والزعماء المحليين والحكومات اللامركزية».
إذاً، لن تنتظر حكومة حزب العمال الجديدة القطاع الرأسمالي حتى يستثمر ويوظف وينمو، بل ستتدخل لتشجيعه على السير في الاتجاه الصحيح من أجل إحياء الصناعة البريطانية. ولن يكون هذا عبر الاستيلاء على القطاعات الرأسمالية لتديرها الدولة، بل سوف يكون هناك المزيد من الاستثمار العام، ولكن فقط «حيث يمكن أن يفتح المجال أمام استثمارات إضافية من القطاع الخاص، وخلق فرص العمل، وتوفير عائد لدافعي الضرائب».
إن هذا يشبه إلى حدّ كبير الاستراتيجية الاقتصادية التي تروّج لها ماريانا مازوكاتو، الخبيرة الاقتصادية «اليسارية» الإيطالية-الأمريكية، التي تعتقد أن الرأسمالية الحديثة تحتاج إلى شراكة «مدفوعة بالغرض» بين القطاعين العام والخاص. وتزعم مازوكاتو، أنّه يتعيّن على الحكومات والشركات الرأسمالية أن تتقاسم المخاطر ثم تتقاسم المكافآت: «إنّ الأمر لا يتعلق بإصلاح الأسواق بل بخلق الأسواق». تلخّص مازوكاتو الأمر قائلة: «يوفر اقتصاد الغرض مساراً لتجديد شباب الدولة، وبالتالي إصلاح الرأسمالية، بدلاً من إنهائها». وهذا هو الغرض المعلن من «اقتصاد الأمان» أيضاً. لكن هل يستطيع «علم اقتصاد الأمان» ​​أن يعيد ترتيب أوراق بريطانيا المحطمة؟

شعارات بلا قيمة

إنّ المفتاح هنا لا بدّ وأن يكون الارتفاع الحاد في الاستثمارات الإنتاجية لاستعادة النمو الاقتصادي، الذي من شأنه أن يوفر المزيد من الدخل للجميع، والمزيد من الإيرادات للحكومة لكي تستثمرها في تلبية الاحتياجات الاجتماعية في مجالات الصحة والرعاية الاجتماعية والتعليم والنقل والاتصالات والإسكان ــ وهي كلها مجالات متعثرة وفاشلة في بريطانيا المحطمة.
لكن من أين يأتي الاستثمار الإضافي؟ كما أوضحت في مقالي السابق عن بريطانيا، فإنّ نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة منخفضة بشكل مثير للشفقة «حوالي 17% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بمتوسّط ​​مجموعة الدول السبع البالغ 23%»، كما أنّ الاستثمار من جانب الشركات الكبرى أقل من ذلك بكثير، إذ يبلغ 10% من الناتج المحلي الإجمالي. أمّا بالنسبة للاستثمار العام، فإن هذه النسبة منخفضة للغاية، إذ تصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني.
تخطط ريفز وحزب العمّال لـ 7.3 مليار باوند فقط «على مدار ولاية البرلمان المقبل». لكنّ حزب العمّال بقيادة كوربين كان قد اقترح 25 مليار باوند، بينما تقترح قيادة ريفز وستارمر ربع هذا المبلغ فقط، وجزءاً ضئيلًا ممّا يعتقد- حتّى خبراء الاقتصاد في كلية لندن للاقتصاد- أنه مطلوب. الواقع، أن ما هو مطلوب للتحوّل السليم للصناعة والخدمات العامة هو أقرب إلى 60 مليار باوند سنوياً على مدى السنوات الخمس المقبلة، أو زيادة لا تقل عن 2-3% من الناتج المحلي الإجمالي كل عام. بدلاً من ذلك، فإن خطة حزب العمال تعني في الواقع انخفاض الاستثمار العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي خلال ولاية هذا البرلمان!
لكن لماذا يتخوف زعماء حزب العمال من زيادة الاستثمار العام؟ السبب الأول: هو أن ضعف الاقتصاد البريطاني يجعل عائدات الضرائب الحكومية منخفضة للغاية، بحيث لا تكفي لتمويل زيادة الاستثمار. والطريقة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف هي أن تقترض الحكومة المزيد من المال، أي إصدار سندات حكومية للبنوك وما إلى ذلك. ولكن هذا من شأنه أن يزيد من العجز في ميزانية الحكومة ويرفع مستوى الدَّين العام ــ الذي بلغ بالفعل أعلى مستوياته على الإطلاق.
نعم، تستطيع الحكومة أن تتجاهل الافتقار إلى «الحيز المالي»، كما يطلقون عليه، وأن تمضي قدماً في الاقتراض على أمل أن يعزز الاستثمار الإضافي النمو والإيرادات، وبالتالي يسدد تكاليفه ويتجنب عبء الديون المتزايد. وهذا ما اقترحته شارون جراهام، زعيمة أكبر نقابة عمالية في بريطانيا، على ريفز. الواقع أنك إذا كنت من أنصار النظرية النقدية الحديثة، فلن تكلف نفسك عناء إصدار السندات، بل ستكتفي بدلاً من ذلك بـ«طباعة النقود»، أي إجبار بنك إنجلترا على إيداع المزيد من المليارات في البنوك.
لكن ماذا قد يفعل المستثمرون الأجانب وحاملو السندات بهذا؟ في أكتوبر/تشرين الأول 2022، اقترحت رئيسة الوزراء المحافظة المعينة لفترة وجيزة ليز تروس، في إطار سعيها لتحقيق «النمو»، ذلك بالضبط. فماذا حدث؟ قام بنك إنجلترا بالعكس ورفع أسعار الفائدة، بينما هرب حاملو السندات الأجانب، وانهارت قيمة الباوند. يخشى زعماء حزب العمال من ضربة استثمارية مماثلة إذا اقترضوا «أكثر مما ينبغي». لذا، فإنهم يخططون للاقتراض بأقل مما ينبغي.
كما أنّ ستارمر وريفز وعدا حتّى بعدم رفع ضريبة الشركات على الشركات الكبرى ــ التي تبلغ 25% بالفعل، وهي الأدنى في مجموعة الدول السبع ــ حتى لا «يردع» الاستثمار. بل ويقولان: إنّه إذا خفّضت دول أخرى معدلاتها، فإنها سوف تتبع السباق نحو القاع من خلال المزيد من التخفيضات، وسوف تستمر في تقديم إعفاءات ضريبية بنسبة 100% على الاستثمار الرأسمالي. المفارقة هنا، أنّ التخفيضات في ضرائب الشركات والإعفاءات فشلت في تعزيز الاستثمار الخاص في أي مكان على مدى العقدين الماضيين.
من ناحية أخرى، الشيء الوحيد الذي تعهدت حكومة العمال البريطانية بالاستثمار العام فيه بشكل جدي: الإنفاق الدفاعي 2.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، من أجل «حماية البلاد من التهديد المفترض بالغزو الروسي… والصيني».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1184