بروكسل وملياراتها... ترسيخ سورية بوصفها «مغارة علي بابا»

بروكسل وملياراتها... ترسيخ سورية بوصفها «مغارة علي بابا»

انعقدت النسخة الثامنة من مؤتمر بروكسل لـ«دعم مستقبل سورية والمنطقة» في السابع والعشرين من شهر أيار الفائت، وشارك فيه ممثلون عن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والدول المجاورة لسورية، ودول ثالثة، بالإضافة إلى ممثلين عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والمنظمات «غير الحكومية» NGOs. وفي نهاية أعمال المؤتمر الذي استضافه الاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية، أعلن ما يسمى «مجتمع المانحين» تعهده بتقديم مبلغ إجمالي قدره 7.5 مليار يورو لدعم سورية ودول الجوار. 

كما يحدث كل عام، ما إن انتهت أعمال المؤتمر حتى بدأنا نشهد سيلاً من التحليلات والمقالات في وسائل الإعلام الغربية تحاول التركيز على «ضخامة» الأرقام واجترار الحديث حول «الاستجابة الرائعة للمانحين» للأزمة في سورية وجوارها.
فيما يلي، سنحاول الإجابة عن بعض الأسئلة المرتبطة بعمل هؤلاء «المانحين»: كم هي المبالغ التي رصدت؟ وما هي المبالغ التي أنفقت فعلاً؟ وكيف تتوزع؟ وهل تجد طريقها فعلاً «لمساندة الشعب السوري»؟ وكيف كان بالإمكان توظيفها فعلاً لتحسين أوضاع السوريين؟ والأهم من ذلك، هل تنطبق صفة «المنحة» أو «المساعدة» على جميع المبالغ التي يجري الحديث عنها كل عام؟

التراجع في التعهدات والوعود بين 2017 و2024: 80%

لا بد من الإشارة إلى أن المبلغ النهائي المرصود الذي يُعلن عنه بعد انتهاء المؤتمر، والذي يجد طريقه بسرعة إلى وسائل الإعلام، ينقسم فعلياً إلى ثلاثة أقسام: تعهدات للعام الحالي، وتعهدات للسنوات التالية، وقروض.
وتعرّف هيئات مؤتمر بروكسل «التعهدات» بوصفها «إعلاناً غير ملزماً عن تبرع أو تخصيص للأموال من المانحين»، أما القروض فهي «التمويل الذي يتحمل المتلقي بفعله ديناً قانونياً».
أول ما يلفت النظر هو أن المبالغ التي تعهدت بها «الدول المانحة» على امتداد السنوات الثمانية السابقة، أي منذ مؤتمر بروكسل الأول في عام 2017، شهدت انخفاضاً متواصلاً لا يمكن التغافل عنه:
في عام 2017، رصدت 36.97 مليار يورو، ثم 23.4 مليار يورو في 2018، و26.8 مليار يورو في 2019، و12.9 مليار يورو في 2020، و11.2 مليار يورو في 2021، و8.8 مليار يورو في 2022، و9.5 مليار يورو في 2023، ثم 7.5 مليار يورو في 2024. أي أن المبلغ المتعهد به في المؤتمر الأخير يشكل انخفاضاً بنحو 80% عن المبلغ الذي جرى التعهد به في المؤتمر الأول.

1177a
النقطة الثانية، هي أن تقارير التتبع المالي التي صدرت عن مؤتمرات بروكسل الماضية، تؤكد أن «الدول المانحة» لم تلتزم بتعهداتها فحسب، بل وتجاوزتها في كثير من الحالات، بحيث وصلت نسبة الالتزام بالتنفيذ في عام 2022 مثلاً إلى 133%، وهي نسبة «مثيرة للإعجاب» فعلاً بحالة واحدة فقط، وهي إن قرر المرء أن يتعامى عن حقيقة أن التقليص المتسارع للتعهدات من الطبيعي أن ينعكس التزاماً أعلى بالدفع.
أما ثالثة الأثافي، فهي أن القروض شكلت أكثر من نصف إجمالي المبالغ على العموم، فكانت نسبتها 61.6% من التعهدات، و52.7% من الإنفاق الفعلي المعلن.

1177c

1177b

قطبة مخفية اسمها «المستفيد من المستوى الأول»

إذا استبعدنا القروض، بوصفها مبالغ ستتم استعادتها عاجلاً أم آجلاً (وبقيمٍ أعلى غالباً بفعل الفوائد)، فإن الرقم النهائي لمجموع الإنفاق الفعلي المعلن خلال 8 سنوات، والبالغ 115.9 مليار يورو، سيتقزم إلى نحو 54.8 مليار يورو فقط.
وهذا لا يعني على الإطلاق أن السوريين ودول الجوار كانوا ينعمون بمبلغ الـ54.8 مليار يورو هذا خلال السنوات الماضية، وهو ما تعترف به حتى تقارير التتبع المالي الصادرة عن مؤتمرات بروكسل، والتي تؤكد على أن أموال الإنفاق الفعلي «تشير إلى الأموال المدفوعة من المانح إلى المستفيد من المستوى الأول، وليس إلى الأموال التي تنفق في نهاية المطاف على مستوى المشروع».
من هو «المستفيد من المستوى الأول» هذا؟ للإجابة عن هذا السؤال يكفي أن نلقي نظرة على الإنفاق الفعلي المعلن موزعاً على القطاعات، ولنأخذ بيانات العام 2023 كمثال: تبيّن أن حصة وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الـNGOs والحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر، والقطاع الخاص وصلت إلى 84.3% من مجموع الإنفاق الفعلي، و14% لـ«وجهات أخرى» غير محددة، أما حصة الحكومات فلم تتجاوز 2%.

1177d
لا يخفى على أحد، بما في ذلك ما تبرزه التصريحات الصادرة عن مسؤولين سابقين في المنظمات الدولية، أن الكتلة الأكبر من هذه الأموال التي يتم اقتطاعها تتبخر في سراديب النفقات التشغيلية للوكالات الدولية والمنظمات «غير الحكومية» المشرفة على الإنفاق والمشاريع، ومن ضمنها رواتب الموظفين العالية، والتكاليف الفلكية لعقد الاجتماعات والحجوزات وأجور المكاتب وغيرها من النفقات التي تقلص إلى حد كبير جداً حجم الكتلة المالية التي تصل فعلياً للمحتاجين وتجعلها تكاد تكون لا مرئية.

ما الذي كان يمكن تغطيته؟

يبقى السؤال: إذا سلمنا جدلاً أن الأموال المعلن عن إنفاقها عبر مؤتمرات بروكسل قد أنفقت كما هي فعلاً (رغم أنها موضع شك بطبيعة الأحوال بسبب صعوبة تتبعها وعدم وجود بيانات سوى ما توفره الجهة ذاتها من تقارير إنفاق)، ماذا لو أن هذه الأموال توجهت، عبر آليات فعلية حقيقية، لتلبية احتياجات السوريين والاقتصاد السوري المتوقف؟
إن مبلغ الـ115.9 مليار يورو المزعوم والذي يعادل نحو 125.8 مليار دولار، كان كافياً لإنهاء بعض جوانب المعاناة السورية إنهاءً جذرياً، ولتغطية جزء يسير من إجمالي خسائر الحرب (المبالغ بها أصلاً) ويكفي أن نترك الأرقام تتحدث:

1177e

معلومات إضافية

العدد رقم:
1177
آخر تعديل على الثلاثاء, 04 حزيران/يونيو 2024 10:12