النموذج الروسي للتعامل مع العقوبات: القطاع النفطي بين 2022 و2023 نموذجاً

النموذج الروسي للتعامل مع العقوبات: القطاع النفطي بين 2022 و2023 نموذجاً

رغم ضغوط العقوبات، تمكنت روسيا بنجاح من إعادة توجيه أسواق النفط نحو آسيا. حيث تتطور الصادرات إلى الهند على سبيل المثال بشكل نشطٍ جداً. وفي الفترة 2022-2023، أصبحت الهند أكبر سوق للنفط الروسي الذي يتم تسليمه عن طريق البحر، ومن حيث الإمدادات عبر خطوط أنابيب النفط، ظلت الصين أكبر مستهلك. وبعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مشترٍ للمنتجات النفطية الروسية حتى عام 2022. أصبحت تركيا في المرتبة الأولى عام 2024، حيث تشتري تركيا كميات كبيرة من روسيا، ثم تعيد بيعها إلى دول الاتحاد الأوروبي. ما يعني أن «أسطول الظل» صار يلعب دوراً مهماً في توريد الموارد الروسية عن طريق البحر.

لتقييم الوضع في صناعة النفط بشكل كامل، من الضروري النظر في عامي 2022 و2023، فبعد أن استقرت السوق العالمية في النصف الثاني من عام 2023، أصبح من الممكن الحديث عن النتائج.

ربيع 2022: نقطة علّام في الوضع الجديد

في آذار 2022، فرضت الولايات المتحدة عقوبات شديدة على الصادرات الروسية: تم فرض حظر على توريد النفط والمنتجات البترولية والفحم والغاز الروسية (أي جميع ناقلات الطاقة تقريباً، باستثناء الوقود النووي). واتخذت هذه الخطوة بهدف تكرار السيناريو السابق الذي جرى مع إيران وفنزويلا، عندما تم فرض حظر كامل على استيراد موارد الطاقة من البلدين، على أمل أن يتسبب تراجع الصادرات بتخفيض ​​دخل البلاد بشكل كبير، مما يؤدي إلى انهيار الاقتصاد وبالتالي انهيار النظام السياسي.
ورغم أنه حتى في حالة إيران وفنزويلا لم تؤد هذه التكتيكات الغربية إلى تغيير الأنظمة السياسية أو تغيير سياسات الدولتين، يمكن القول: إن العواقب على اقتصاد البلدين كانت أكبر من العواقب على روسيا. في هذا الصدد، يمكن الحديث عن نقلة نوعية ميّزت الحالة الروسية عن حالة فنزويلا وإيران، وهي أن العقوبات على روسيا أدت إلى إلحاق ضرر واضح وصريح ومباشر بالدول ذاتها التي فرضت العقوبات.
ويجب أن نذكّر أنه بحلول ربيع 2022، توقفت الشركات الأوروبية عن شراء كميات إضافية من النفط الروسي في العقود قصيرة الأجل. ورغم عدم وجود حظر مباشر على شراء النفط الروسي من قبل السلطات الأوروبية آنذاك، إلا أن الشركات كانت تخشى التعامل مع روسيا. على سبيل المثال: نشرت شركة شل، بعد شراء شحنة من النفط الروسي في السوق الفورية، اعتذاراً على تويتر، واصفة عملية الشراء بأنها «قرار صعب» اضطرت الشركة إلى اتخاذه. وهكذا، نتيجة للحظر الأمريكي على قطاع الطاقة الروسي و«العقوبات الفردية» الغريبة التي فرضتها الشركات الأوروبية، انخفضت الإمدادات من روسيا إلى دول الغرب في ربيع 2022.

التوجه شرقاً: خيار روسيا الوحيد للنجاة من العقوبات

في وضع كهذا، كانت روسيا بحاجة ماسة إلى إعادة توجيه أسواق مبيعاتها. في السابق، كانت الولايات المتحدة وأوروبا من كبار المشترين للنفط ومنتجات الطاقة عموماً.
وبعد فرض «الموجة الأولى» من العقوبات في ربيع 2022، استغرق الأمر من الشركات الروسية حوالي 3 إلى 4 أسابيع لتوقيع العقود وإنشاء الخدمات اللوجستية مع الأسواق البديلة، وفي المقام الأول الهند. وخلال هذه الفترة الانتقالية، اضطرت الشركات الروسية إلى خفض الإنتاج، مما أثر بشكل مباشر على أسعار السوق العالمية. وبسبب النقص في السوق العالمية، وصل السعر إلى 120 دولاراً للبرميل، ما أجبر بعض قادة الغرب على إعادة النظر في استراتيجيتهم فيما يتعلق بسوق النفط الروسي: كان الافتراض السابق يقول: إنه إذا كانت روسيا تمثل 1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإن انسحابها من الأسواق العالمية لن يكون له تأثير كبير. ولم يؤخذ في الاعتبار أن الاتحاد الروسي ينتج السلع الأساسية كالنفط وموارد الطاقة الأخرى، والحبوب، والمعادن، وما إلى ذلك. وإذا تمت إزالة الإمدادات الروسية من الأسواق العالمية، سيبدأ النقص في المواد الخام وبالتالي سترتفع الأسعار، بما في ذلك أسعار الخامات الروسية. وعليه، فإن روسيا - رغم انخفاض حجم الإنتاج - لم تفقد الدخل بسبب ارتفاع أسعار أحجام التصدير المتبقية.
الدول التي فرضت عقوبات مناهضة لروسيا هي مستهلكة للنفط، وعند شراء النفط من أصل روسي وغير روسي، اضطرت إلى دفع أسعار متزايدة. ونتيجة لذلك، ورغم العقوبات المفروضة، استمر الاتحاد الروسي في كسب المال كما كان من قبل، بينما اضطر المستهلكون إلى إنفاق المزيد بشكل ملحوظ.
كان الأثر في الولايات المتحدة مباشراً: أصبح النفط والوقود أكثر تكلفة في السوق المحلية. وكغيرهم من الشعوب، يتمتع سكان الولايات المتحدة بسلوك سياسي داخلي واضح ينص على أن أي زيادة تطرأ على أسعار البنزين والديزل في ظل أي إدارة حاكمة، فإن شعبية هذه الإدارة ستنخفض بشكلٍ تلقائي. بالإضافة إلى ذلك، بدأ التضخم في الارتفاع في البلاد، حيث أثرت تكلفة الوقود على أسعار السلع النهائية. لهذا، قررت الولايات المتحدة تغيير استراتيجيتها: قالت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين: إنه يجب السماح لروسيا بملء سوق النفط العالمية قدر الإمكان، ولكن في الوقت نفسه يجب حرمانها من فرصة كسب المال. وهكذا، في ربيع عام 2022، تم طرح فكرة إدخال «سقف أسعار» على النفط الروسي، والذي نص على حظر النقل بالناقلات والتأمين على هذا النقل إذا كانت تكلفة النفط أعلى من 60 دولاراً للبرميل.

1174-3

بناءً عليه، سرّعت روسيا في صيف 2022 عملية إعادة توجيه النفط إلى الأسواق البديلة، وزادت أحجام الإنتاج، مما أدى إلى انخفاض أسعار النفط. في البداية، أعيد توجيه الصادرات الروسية إلى السوق الهندية، رغم أنه قبل عام 2022، لم يكن الاتحاد الروسي من بين الموردين العشرة الأوائل للهند، ولم تكن الهند من بين أكبر عشرة مشترين للنفط الروسي.
ترجع سهولة هذا التحول نسبياً إلى وجود أعمال جاهزة في الهند: فقد تم بناء مصافي تكرير جديدة على الساحل، مما دفع عملية شراء النفط من الأسواق القريبة. وهكذا في 2022-2023. أصبحت الهند أكبر سوق للنفط الروسي الذي يتم تسليمه عن طريق البحر، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الإمدادات عبر خطوط أنابيب النفط، فإن الصين تظل المستهلك الأكبر.
وخلال الفترة الانتقالية (أيار- حزيران 2022)، تم توريد النفط الروسي بخصم كبير يصل إلى 35 دولاراً للبرميل. وقد تم ذلك بهدف إخراج المورّدين الآخرين من الأسواق الجديدة لروسيا. بالإضافة إلى ذلك، خلال تلك الفترة تم فرض عدد كبير من العقوبات من مختلف الدول والمنظمات، ولم يكن المشترون يعرفون كيف يمكنهم شراء النفط الروسي بالضبط، وبأي العملات يمكنهم الدفع، ومع أي بنك يمكنهم التعاون، وما إلى ذلك. وكان لا بد من تغطية كل هذه المخاطر من خلال خصومات متزايدة. في هذا الوضع، اقتنصت الهند الفرصة بسرعة، وبدأت في شراء أكثر من مليون برميل من النفط الروسي يومياً. وفي المتوسط، صارت روسيا تصدّر نحو 2.5 إلى 3 مليون برميل يومياً، وبالتالي فإن التدفق من السوق الأوروبية بدأ ينتقل بسهولة إلى الهند.
صارت الهند تزود أسواق المنتجات النفطية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بوقود الديزل الذي يتم الحصول عليه من النفط الروسي، وهو أمر لا تحظره العقوبات. وفي السوق الهندية المحلية، يتزايد استهلاك المنتجات البترولية بشكل مطرد، مما يجعل البلاد سوق مبيعات مهم من الضروري الحصول على موطئ قدم فيه، وهو ما تمكن الموردون الروس من القيام به. ووفقاً لتوقعات وكالة الطاقة الدولية وأوبك، فإن الصين والهند هما المحركان لنمو استهلاك النفط على المستوى العالمي.

تحولات 2022-2024: تخطيط للمزيد من التوجه شرقاً

في الفترة 2022-2023، ظلت الهند المشتري الرئيسي للنفط الروسي المنقول بحراً، حيث اشترت أكثر من مليون برميل يومياً. وبشكل تصاعدي، وصلت أحجام الشراء إلى 2 مليون برميل يومياً.
وبالنظر إلى الإمدادات نحو الصين، تجدر الإشارة إلى أنه لم يتم رفع قيود فيروس كورونا بالكامل إلا في بداية عام 2023. وشهدت البلاد طوال عام 2022 انخفاضاً في الطلب على النفط والمنتجات النفطية، ولم تبدأ الإمدادات الرئيسية بالتصاعد إلا في عام 2023. وهذا ما يفسر الزيادة في مشتريات النفط والمنتجات النفطية الروسية اعتباراً من عام 2023. وعليه، في 2023-2024، اشتد الإقبال الهندي والصيني على إمدادات النفط من روسيا.
واعتباراً من شهر شباط الماضي 2024، يمكن القول: إن المرتبة الأولى في إمدادات النفط الروسي تشغلها الصين والهند بالتناوب. وهذا ما مهّد الطريق أمام الشركات الروسية لمحاولة تحسين ظروف البيع (عبر الاتفاقات الثنائية على العملات التي سيتم الدفع بها وحجم الخصم المقدم).
وبالنظر إلى الأسواق الآسيوية، تجدر الإشارة إلى أن الطلب على خط أنابيب النفط «شرق سيبيريا - المحيط الهادئ» آخذ في الازدياد، ويتم توريد 30 مليون طن سنوياً إلى الصين عبر فرعها من هذا الخط. ويخطط منتجو النفط الروس لتوريد النفط مباشرة إلى ميناء كوزمينو الرئيسي بشرق البلاد ثم الدخول مباشرة إلى الأسواق الآسيوية، وهذا الطريق أكثر ربحية من العبور عبر قناة السويس.

المصلحة تدفع الدول لتجاوز العقوبات على روسيا

يظهر تحليل صادرات سوق المنتجات البترولية أنه اعتباراً من كانون الثاني 2022، تم نقل الإمدادات الروسية بشكل أساسي إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية. وفي شباط 2022، احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى من حيث حجم مشتريات النفط والديزل الروسيين. وفي النصف الثاني من عام 2023، احتلت تركيا المركز الأول، وحصلت البرازيل على المركز الثاني (وهي مشترٍ موسمي). حيث تشتري تركيا كميات كبيرة من روسيا، ثم تعيد بيع كميات مماثلة إلى دول الاتحاد الأوروبي. ورغم التصريحات هنا وهناك حول أن مصدر هذه المنتجات البترولية مختلف، إلا أن أحجام الشراء والبيع هي نفسها التي تجري مع روسيا رسمياً.
وتشغل الدول الأفريقية ودول المنطقة العربية جزءاً من سوق المبيعات. ورغم أن الدول العربية هي نفسها منتجة للنفط، إلا أن بعض الدول، مثل: ليبيا، تشتري المنتجات البترولية الروسية للسوق المحلية. ولكن في الوقت نفسه، يتم تصدير المنتجات النفطية المنتجة محلياً بسعر أعلى.

ظروف ونشأة «أسطول الظل» العالمي

من الضروري الإشارة إلى ما يسمى «أسطول الظل» العالمي، فعندما تم فرض الحظر على التأمين والنقل البحري للنفط الذي يزيد سعره عن 60 دولاراً للبرميل، بدأ تشكيل أسطول من الناقلات جاهزاً للعمل في الظروف الحالية.
تم شراء الناقلات من السوق العالمية من قبل العديد من الشركات المسجلة في الخارج. ووفقاً لشركة Vortex، تعمل حوالي 500 ناقلة ذات أوزان مختلفة حصرياً على نقل النفط الروسي. ويعمل العدد نفسه في مجال النقل، إما لنقل النفط الإيراني والفنزويلي فقط، أو لنقل النفط الخاضع للعقوبات من الدول الثلاث معاً. ويبلغ إجمالي عدد «أسطول الظل» نحو ألف سفينة، ورغم الادعاءات بأن الناقلات المستخدمة ذات نوعية رديئة وقد تشكل خطراً على البيئة، تجدر الإشارة إلى أن معظم الناقلات كانت في الخدمة أصلاً، وحتى لو لم تعمل في أسطول الظل، كانت ستظل في الخدمة على أية حال.
وتفرض الولايات المتحدة بشكل دوري عقوبات فردية على أي ناقلة. لكن في الوقت نفسه، تدرك أن فرض عقوبات عالمية على هذه الناقلات ليس مفيداً لإدارة البيت الأبيض. ومن المهم بالنسبة للولايات المتحدة عدم إثارة انخفاض في صادرات النفط الروسية، لأن ذلك سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية. وفي الوقت الحالي، تتمثل استراتيجية الولايات المتحدة في محاولة زيادة التكاليف على روسيا بشكل مستمر من أجل خفض إيراداتها النفطية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1174
آخر تعديل على الإثنين, 20 أيار 2024 13:51