مركز التجارة الدولية «شمال - جنوب»: البدائل الجديدة تتصدر المشهد

مركز التجارة الدولية «شمال - جنوب»: البدائل الجديدة تتصدر المشهد

منذ عام 2014، فرض الغرب أكثر من 12,000 عقوبة فردية وقطاعية ضد روسيا. اليوم، باتت روسيا رائدة بين الدول الخاضعة للعقوبات، حيث تقدمت مرتين على إيران وكوريا الشمالية. ولا ينفكّ بعض الخبراء الغربيين عن الترويج لفكرة أن روسيا التي تساهم بنسبة تقارب 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي يمكن «عزلها» عن الاقتصاد العالمي بسهولة. رغم ذلك، تقدم الوقائع اثباتات متواصلة على خطأ هذه الفرضية. 

إلى جانب قائمة العقوبات الطويلة الأخرى المفروضة، يُحظر على روسيا استخدام معظم البنى التحتية اللوجستية، ابتداءً من منع دخول الطائرات الروسية إلى المجال الجوي للاتحاد الأوروبي وعدد من الدول الأخرى، وصولاً إلى حظر استخدام الموانئ البحرية. الأمر الذي يرفع تكاليف الشحن في روسيا، ويجبرها على البحث عن قنوات أخرى لبيع منتجاتها. أحد هذه القنوات هو ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، المعروف باسم مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» North-South ITC، وهو مشروع رئيسي يهدف إلى توفير روابط النقل بين روسيا وإيران والهند والصين.

العقوبات ترفع الحاجة للبدائل الحاسمة

يزيد وضع روسيا في سياق العقوبات غير المسبوقة من الحاجة الملحة إلى تطوير بنى تحتية جديدة للتجارة والنقل. لهذا، فإن المشروع الطموح «شمال جنوب» مشروط بالحصول على امتيازات اقتصادية من جانب البلدان المشاركة، وإنشاء مناطق صناعية خاصة على طول مركز التجارة الدولية «شمال جنوب»، وتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية الثنائية بين البلدان، وإنشاء محور اقتصادي وسياسي بين أوروبا وآسيا، والتحديث الشامل والتعاون وزيادة القدرة التنافسية للاقتصادات الوطنية في سياق مشروع مشترك، وربط التعاون في إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) والمشروع الصيني «الحزام والطريق OBOR».
جميع الدول المشاركة في هذا المشروع تسعى للاستفادة القصوى منه، ولا سيما روسيا التي تراه فرصة لكسب تدفق البضائع من الهند والصين عن طريق نقل جزء من الطريق الغربي العابر للقارات (عبر قناة السويس) إلى المنصة الأوراسية، بمشاركة نشطة من إيران ودول بحر قزوين، وكذلك إعطاء زخم لتنمية منطقة الفولغا ومنطقة بحر قزوين من خلال الصناعات والخدمات ذات الصلة على طول مركز التجارة الدولية «شمال جنوب»، وإنشاء قناة جديدة لإيصال السلع والخدمات الروسية إلى الأسواق الدولية.
ويكمن الجانب الجيوسياسي في تطوير العلاقات التجارية بين الدول المشاركة في المشروع في استخدام طريق فريد يقلّل من التكاليف والمخاطر ووقت تسليم البضائع مقارنة بالنقل عبر قناة السويس. ومن بين أهم المشاركين في مشروع البنية التحتية إيران، التي تخضع ، مثل روسيا، لعقوبات غربية كبيرة.

1125-1

«شمال جنوب»: سياق التكوين وآفاق التطور

تعود الجذور العميقة للمشروع إلى القرن الماضي. ففي الإمبراطورية الروسية في عام 1910، جرى تطوير طريق بحر قزوين - الخليج العربي. وغالباً ما كان يستخدم لتسليم البضائع.
بدأ مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وذلك في شكل سكك حديدية عابرة لإيران. كان البادئ بالمشروع هو بريطانيا العظمى، وهدفه هو احتواء نفوذ الاتحاد السوفيتي في منطقة شرق المتوسط. حيث تم إطلاق الطريق قبل فترة من الموعد المحدد له في 26 آب 1938. وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية، تمّ إعادة توجيه الطريق من أجل تنفيذ مهام الإعارة والتأجير. اليوم، وبعد حوالي 85 عاماً، تملك هذه المبادرة فرصة حقيقية لإعادة إحيائها من أجل المساهمة في زيادة تطوير الاقتصادات المشتركة للدول.
تمّ التوصل إلى اتفاق بشأن إنشاء ممر النقل بين الشمال والجنوب في المؤتمر الأوراسي الدولي الثاني المعني بالنقل، والذي جرى عقده في سان بطرسبرغ في أيلول عام 2000 حيث تم التوقيع على اتفاق ثلاثي بين روسيا وإيران والهند، وفي أيار 2002، صادق عليها جميع المشاركين. وفي وقتٍ لاحق، انضمت أكثر من 10 دول إلى الاتفاق.
مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» هو مبادرة تشكلت فعلياً تحت تأثير الإرادة السياسية للدول المهتمة والمتضررة من الهيمنة الأمريكية. منذ عام 2000، عندما ظهرت فكرة مركز التجارة الدولية «شمال جنوب»، خضع المشروع لتعديلات كبيرة. كان من المخطط له في الأصل أن يكون بديلاً لقناة السويس، ولكن على مدار 22 عاماً، تغيرت ظروف السوق واتخذ المشروع شكلاً مختلفاً تماماً.
أهم عمل نتج عن مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» هو الدفع لتطوير استراتيجية تطوير الموانئ البحرية الروسية حتى عام 2030، والتي تشير إلى أن مشروع مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» لا يتم تنفيذه بالكامل، حيث انخفض سابقاً حجم البضائع التي تمر عبر موانئ بحر قزوين. وتتضمن الاستراتيجية الجديدة إدراج إيران في منطقة تجارة حرة وإنشاء مركز للمنتجات الروسية.
في عام 2019، تمت الموافقة على استراتيجية التنمية لروسيا حتى عام 2025، حيث يتم وضع الممرات التجارية بين الشمال والجنوب والشرق والغرب على نفس المستوى من حيث الأهمية. ويشار إلى الأول على أنه مشروع بنية تحتية متقدم، ويرجع تطويره إلى هدف زيادة التعاون الاقتصادي الاجتماعي بين الدول المشاركة في المشروع.
تؤكد القوانين الروسية والاتفاقات الاقتصادية الثنائية أن المشروع الضخم بين الشمال والجنوب يخضع حالياً لتغييرات عن الخطة الأصلية لعام 2000. حيث يتطلب الوضع الجيوسياسي الحالي تطويره، وإشراك المزيد من الأطراف فيه. على سبيل المثال، في 9 أيلول 2022، تم التوقيع على إعلان ثلاثي بشأن تطوير ممر النقل بين الشمال والجنوب في باكو. في ذلك الإعلان، اتفق ممثلو أذربيجان وروسيا وإيران على تكثيف الجهود لتطوير المشروع، وأكدوا على أهمية القرارات المستقبلية المتعلقة باستكمال بناء وتشغيل خط سكة حديد رشت (إيران) - أستارا (أذربيجان). وأكد الأطراف أن إمكانات ممر النقل سيتم استغلالها بالكامل بحلول عام 2030.

تنفيذ مشروع مركز التجارة الدولية «شمال جنوب»

مرّ العمل على مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» بعدة مراحل فعلياً. في البداية، تمّ تنفيذ النقل من جانب العديد من الشركات، بما في ذلك شركة «IranHand» الإيرانية الهندية وشركة «IRSORT» الروسية الإيرانية، بمشاركة شركة «Raji».
بين عامي 2000 و2001 تم نقل ما يقارب 2,400 حاوية تبلغ أربعين قدماً. وفي عام 2002، تم تعليق حركة المرور على طول هذا الممر، ولم يستمر سوى جزء من الطريق بين إيران وروسيا عبر بحر قزوين. وجرى ذكر أسباب مختلفة للتعليق: تقنية ولوجستية ومالية وسياسية واستراتيجية. رغم ذلك، لا يزال المشروع جذاباً. وأعلنت العديد من الدول بينها بيلاروسيا وأذربيجان وكازاخستان وأرمينيا وعُمان أنها ستنضم إليه. وقد أعربت تركيا عن اهتمامهما بالانضمام. وكانت بلغاريا مراقباً للمشروع.
اتجاهات لتطوير مركز التجارة الدولية «شمال جنوب»

كان من المفترض تطوير مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» في عدة اتجاهات للنقل:
أولاً، الاتجاه الغربي: الضفة اليمنى لبحر قزوين (روسيا - أذربيجان) بالإضافة إلى ميناءين في سانت بطرسبرغ (روسيا) - بندر عباس (إيران)، حيث هناك في إيران سكة حديد متطورة للوصول إلى الخليج العربي.
ثانياً، اتجاه بحر قزوين: من خلال استخدام خطوط العبّارات والحاويات على طول بحر قزوين ، وهي بشكلٍ رئيسي: سانت بطرسبرغ (روسيا) - بندر عباس (إيران).
ثالثاً، الاتجاه الشرقي: الساحل الشرقي لبحر قزوين عبر كازاخستان، تركمانستان، إيران.
في نهاية عام 2021، تم إرسال أول قطار حاويات كامل على طول مركز التجارة الدولية «شمال جنوب». تم دعم المشروع من قبل شركة RZD Logistics الروسية وشركة Numinen Logistics الفنلندية. وضم قطار الشحن 32 حاوية، وسار على طول طريق هلسنكي - مومباي باستخدام النقل البري والسكك الحديدية والنقل البحري. حيث شقت الشحنة طريقها في غضون 10 أيام فقط، مما يؤكد كفاءة الممر.
خصصت شركة النقل الإيرانية IRISL 300 حاوية لنقل البضائع إلى روسيا في عام 2022. تظهر عمليات الإطلاق التجريبية للمسار من قبل هذه الشركة أن العبور المنتظم من روسيا وإيران إلى الهند والعودة سيكون على مدار الساعة تقريباً. وتفيد شركة خطوط الشحن الإيرانية أنه سيتم تخصيص المزيد من الحاويات والسفن الإضافية في المستقبل القريب لتسليم البضائع عبر بحر قزوين.
في حزيران 2022، تم تنشيط فرع الطريق الشرقي. حيث مرت البضائع الروسية عبر أراضي روسيا وكازاخستان وتركمانستان. وتم تسليم الشحنة وفقاً للخطة إلى ميناء بندر عباس الإيراني، ثم إلى الهند.
بالتوازي مع ذلك، لا يمكن أن يوجد مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» بشكل منفصل عن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والمشاريع الكبيرة مثل مبادرة الحزام والطريق.
تنتظر الصين فائدة كبيرة من مركز التجارة الدولية «شمال جنوب»، وبشكلٍ خاص عن طريق تشغيل موانئ بحر قزوين، حيث يرتبط بعض المشاركين في ممر النقل (الصين وكازاخستان وإيران) بسلسلة ممرات واحدة. يذكر أنه في عام 2018، تم افتتاح طريق متعدد الوجهات يربط شرق الصين (من Lianyungang) بغرب الصين (عند Urumqi) وصولاً إلى الحدود مع كازاخستان (عند Dostyk) وعلى طول سكة حديد Zhezkazgan-Beyneu وصولاً إلى ميناء أكتاو. هذا الطريق هو أهم طريق في مبادرة الحزام والطريق ومركز التجارة الدولية «شمال جنوب».
بالنسبة لمركز التجارة الدولية «شمال جنوب»، من المهم جداً من الناحية الفنية والاقتصادية التفاعل مع مشاريع الربط التابعة للاتحاد الاقتصادي الأوراسي. وتجدر الإشارة إلى أن البلدان لا تستخدم قدراتها التقنية فحسب، بل لديها أيضاً اتفاقيات ثنائية مع مشاريع الربط الأوراسية. ففي عام 2018، وقع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وإيران اتفاقية مؤقتة بشأن تشكيل منطقة تجارة حرة. حيث تحصل إيران على فرصة لتوسيع سوق تصدير البضائع والعمالة. ويجري تطوير اتفاقات مماثلة من جانب الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع الهند. وربط مشاريع مركز التجارة الدولية «شمال جنوب» مع الإمكانات الكبيرة للاتحاد الاقتصمنادي الأوراسي هو أمر أكثر من واعد، لأنه يسهم في تشكيل مساحة اقتصادية واحدة.

screenshot-2023-06-04-at-10_45_26-pm

تأثير الوضع الجيوسياسي على مركز التجارة الدولية «شمال جنوب»

سياسة العقوبات الصارمة ضد روسيا لا يمكن إلا أن تؤثر على قطاع النقل البحري. ترتبط الضربة الأكثر إيلاماً بتعطيل نظام الملاحة الإلكتروني من التحديثات والتعديلات على مخططات الملاحة. حيث رفضت أكبر الشركات في مجال نقل البضائع الدولية «ميرسك»، وشركة البحر الأبيض المتوسط للشحن، وشركات CMA، وCGM، وOcean Network Express وHapag-Lloyd العمل في روسيا. وإقدام أوروبا على العقوبات والذي يشكل مشاكل قطاعية في مجال الشحن لروسيا، جعل ممر النقل بين الشمال والجنوب أحد القنوات الرئيسية للصادرات والواردات الروسية.
من المهم أيضاً أن الدول المشاركة في المشروع ترفض بحسم اتخاذ موقف معادي لروسيا، ولا تفرض عقوبات عليها حتى تحت ضغط من الولايات المتحدة والغرب، ذلك أن العلاقات مع روسيا مهمة بالنسبة لهم: في هذا الصدد، تتعاون روسيا بنشاط مع إيران، الخاضعة للعقوبات الدولية منذ عام 1979، والتي تعد مركزاً أساسياً لمشروع الشمال والجنوب. بدورها، تلتزم الهند، على الرغم من ضغوط الولايات المتحدة، بمصالحها الوطنية وتظهر الحياد الهندي التقليدي.
وبفعل التنسيق الروسي الصيني، تشارك الصين بفعالية في المشروع، وتعتبره طريقاً إضافياً لطريق الحرير، الأمر الذي يعطيه دفعة قوية ويرفع حظوظه جدياً.
هذا لا يعني أن المشروع لا يعاني من بعض الصعوبات حالياً، فعلى الرغم من عمليات الإطلاق التجريبية الناجحة، فإن الطريق بين الشمال والجنوب يواجه بعض المشاكل المتعلقة بالخدمات اللوجستية ، من بينها مثلاً نقص الحاويات الناجم عن انسحاب شركات التصنيع من السوق الروسية، والبنية التحتية القديمة للموانئ في أستراخان ومحج قلعة، وأنه لا يوجد اتصال مباشر بالسكك الحديدية بين روسيا وإيران، فضلاً عن بعض المشاكل ذات الطبيعة القانونية والبيروقراطية. لكن الجهد المبذول روسياً لحل المشاكل المذكورة أعلاه بالإضافة إلى الرغبة الحاسمة من الدول المشاركة لدفع هذا المشروع للأمام، ستسهل كثيراً إيجاد حلول سريعة لهذه المشاكل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1125
آخر تعديل على السبت, 06 كانون2/يناير 2024 14:03