حصيلة بازار «سقف الدين» الأمريكي... لا شيء يخفف من أزمة واشنطن
كما هو متوقع، توصّل كل من الرئيس الأميركي «الديمقراطي»، جو بايدن، ورئيس مجلس النواب «الجمهوري»، كيفن مكارثي، صباح الأحد 28 أيار 2023، إلى «اتفاقٍ من حيث المبدأ» لرفع سقف دين الحكومة الاتحادية البالغ 31.4 تريليون دولار، دون أي مراسم احتفالية كما جرت العادة. شكلياً، وكما تحاول أن تصور وسائل الإعلام الغربية فإن «الأزمة قد انتهت»، لكن في الجوهر، فإن هذا الاتفاق المتوقع - والذي كان يحدث دائماً حين وصول الولايات المتحدة إلى سقف الدين بغض النظر عن هوية الرئيس الحاكم، سواء كان «ديمقراطياً» أم «جمهورياً»- قد جنّب الولايات المتحدة الانهيار السريع الشامل الذي سينجم حتماً عن سيناريو التخلف عن السداد، ودفعها لمواصلة خيار «الانهيار بشكلٍ سلس» الذي يجري الآن بشكلٍ تدريجي.
وقبيل الوصول إلى هذا الاتفاق المبدئي، كان المشهد السياسي الغربي منكباً على مناقشة موضوع سقف الدين، ومن ذلك، ما عبرت عنه وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، التي أكدت أن احتمال التخلف عن السداد «يخاطر بتقويض القيادة الاقتصادية العالمية للولايات المتحدة والتشكيك في قدرتنا على حماية مصالح الأمن القومي».
صحيح أن احتمال التخلف عن السداد كان مستبعداً من جميع الاقتصاديين المرموقين، لكنّ مجريات الخلاف عكست على نحو واضح حالة الترهل التي وصلت إليها النخب الحاكمة في الولايات المتحدة.
في هذا الصدد، قالت يلين إنه إذا فشل الكونغرس والبيت الأبيض في رفع سقف الدين الفيدرالي البالغ 31.4 تريليون دولار وفقاً للقانون، فقد تبدأ وزارة الخزانة في عدم سداد مدفوعات التزاماتها في الأول من حزيران. في المقابل، وحتى لو أجلت الحكومة الأمريكية مدفوعات القروض لعدة ساعات فقط، فإن هذا سيقوّض مجدداً وبشكل أكبر ثقة المستثمرين في الأوراق المالية الأمريكية.
وقد أثرت مشكلة الدين العام الأمريكي بالفعل على سياسة واشنطن الخارجية: ألغى الرئيس جو بايدن عدداً من زيارات السياسة الخارجية إلى منطقة المحيط الهادئ (الساحة الأهم اليوم بالنسبة للمصالح الأمريكية) وقلّل من وجوده في قمة مجموعة السبع G7. حيث يكشف وضع الدين العام الأمريكي مدى الخطر الذي تلحقه الهيمنة المالية للولايات المتحدة على العالم بأسره.
ما هو الدين العام الأمريكي؟ وما هي مشكلته بالفعل؟
تتلخّص مشكلة الدين القومي الأمريكي في ما يلي: على مدى العقود القليلة الماضية، كانت الدولة الأمريكية تعيش حرفياً من الديون - فهي تغطي عجز الميزانية عن طريق اقتراض الأموال.
نفقات ميزانية الولايات المتحدة كبيرة لدرجة أنه لا يغطيها الاقتصاد الحقيقي للبلاد. لهذا، تصدر وزارة الخزانة الأمريكية أنواعاً مختلفة من الديون التي تسمح للولايات المتحدة بجمع الأموال. وهذه الديون لها مالكين مختلفين: يتم الاحتفاظ بنصف الدين الوطني مباشرة من جانب حكومة الولايات المتحدة ونظام الاحتياطي الفيدرالي (فعلياً، تقرض واشنطن هذه الأموال لنفسها وتتلقى فائدة على التزامات الديون، وتدعمها كلها بإصدار الدولار مجدداً. والنتيجة البديهية لذلك، هو ارتفاع التضخم بشكلٍ مهول).
أما التزامات الديون الأخرى فيحتفظ بها حاملوها الأجانب، في المقام الأول في اليابان والصين والمملكة المتحدة وغيرهم. ولكن من أجل دفع الفائدة على هذه الأوراق المالية، يحتاج الأمريكيون إلى بيع ديون جديدة، وبالتالي إلى رفع سقف الدين الوطني.
لهذا، تجاوز الدين القومي الأمريكي منذ فترة طويلة الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. ووفقاً لتقديراتٍ عدة، فإنه بحلول عام 2025، سيتجاوز 136% من الناتج المحلي الإجمالي.
يحدد سقف الدين الذي أنشأه الكونغرس في عام 1917 الحد الأقصى لمبلغ الديون الفيدرالية المستحقة التي يمكن لحكومة الولايات المتحدة تحملها. في كانون الثاني 2023، وصل إجمالي الدين الحكومي وسقف الدين إلى 31.4 تريليون دولار. ومنذ عام 2001، سجلت الميزانية الفيدرالية الأميركية عجزاً سنوياً يبلغ في المتوسط ما يقارب 1 تريليون دولار، أي أنها تغطي هذه التكاليف على وجه التحديد من خلال التزامات الديون. وعادة، إذا لزم الأمر (عندما تكون هناك حاجة إلى المال لدفع الفائدة السابقة على ديون الدولة)، يتم رفع السقف من خلال اعتماد تعديل جديد لقانون الميزانية الفيدرالية.
وفي الواقع، فإن الرسمة المذكورة آنفاً هي مخطط هرم مالي عالمي يشارك فيه العالم بأسره. وإذا توقف شراء أو بيع السندات، فلن تتمكن الولايات المتحدة من دفع الفائدة على المدفوعات، وسينهار النظام بأكمله.
ما الذي جرى في الولايات المتحدة مؤخراً؟
في كانون الثاني 2023، تجاوز الدين الوطني بالفعل السقف القانوني البالغ 31.4 تريليون دولار. لهذا، اتخذت وزارة المالية عدداً من الإجراءات الطارئة. على سبيل المثال، جمّدت جزءاً من إنفاق الميزانية، وأجلته إلى تواريخ أخرى، على أمل أن يتفق الكونغرس والسلطة التنفيذية على رفع السقف.
ومع ذلك، ونظراً لأن الكونغرس يسيطر عليه الآن «الجمهوريون»، بينما يسيطر «الديمقراطيون» على الفرع التنفيذي، فقد أصبحت قضية الدين الوطني موضوعاً للمساومة السياسية المحلية من جديد.
يشترط الكونغرس، في إطار اتفاق محتمل مع السلطة التنفيذية، تخفيض جزء من التكاليف. بينما تزعم إدارة بايدن رغبتها في توجيه تقليص الإنفاق للحد من الثغرات الضريبية لرجال الأعمال والصناعيين، وترك الإنفاق الاجتماعي دون تغيير، وخفض الإنفاق العسكري جزئياً. لذلك يخطط كل طرف لتجنب الحاجة الحادة لاقتراض الأموال مرة أخرى، عبر تقليل جزء من النفقات «غير الضرورية» وإيجاد مصادر دخل جديدة.
«الجمهوريون»، الذين يحتاجون موضوعياً إلى أصوات رجال الأعمال والصناعيين وما تبقى من طبقة وسطى، والذين يدعمهم رأس المال الأمريكي الكبير في الانتخابات الرئاسية والكونغرس في عام 2024، يعارضون تشديد الجباية المالية للدولة. لكنهم يسعون إلى خفض الإنفاق الاجتماعي، لأن المدفوعات تذهب في الأساس إلى ناخبي «الحزب الديمقراطي»، وخاصة الأقليات. لذلك سيقوم «الجمهوريون» بتشديد شروط الاستفادة من المساعدة النقدية الحكومية ومعونة الطعام وبرنامج الرعاية الصحية Medicaid.
انخفاض شعبية جو بايدن يترك الفرصة الوحيدة للديمقراطيين للفوز من خلال رشوة جزء من ناخبيهم حرفياً، ومنحهم المزيد من المال والمزايا (أو على الأقل وعدهم بذلك). رغم ذلك، لا يمكن أن تحدث زيادة حقيقية في أرقام الإنفاق الاجتماعي بسبب مؤشرات الركود الاقتصادي القوي إلا من خلال اقتراض أموال جديدة (بما في ذلك من خلال شراء سندات الدين العام)، أي تشغيل المطبعة مجدداً. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أيضاً دفع «حزم مساعدة» بمليارات الدولارات لأوكرانيا. أي أن المأزق الأمريكي مع سقف الدين يدعو إلى التشكيك على الأقل في إمكانية تخصيص أموال جديدة للإنفاق ويؤجلها.
في نيسان 2023، أقرّ مجلس النواب الذي يقوده «الجمهوريون» مشروع قانون من شأنه رفع سقف الديون مقابل تخفيضات بنسبة 14% تقريباً في الإنفاق الفيدرالي على مدى العقد المقبل. وهدَّد بايدن باستخدام حق النقض ضد هذا الإجراء. كانت هناك عدة جولات من المفاوضات منذ ذلك الحين، ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بعد.
ورغم تصريحات البيت الأبيض حول الطبيعة «المثمرة» للمفاوضات، يهدف الجمهوريون إلى «الضغط» على المنافسين، وإجبارهم على تقديم أقصى قدر من التنازلات. لذلك، في 23 أيار، حمّل رئيس مجلس النواب في الكونغرس بايدن المسؤولية عن التخلف المحتمل مقدماً:
«أمام الديمقراطيين 9 أيام متبقية للوفاء بالموعد النهائي، ولكن بما أن الرئيس بايدن تجاهل أزمة الديون هذه لأكثر من 100 يوم، فإن أي تخلف عن السداد سيكون تخلف بايدن عن السداد».
وكالعادة، خلصت النتيجة إلى توصّل كل من بايدن، ورئيس مجلس النواب مكارثي، صباح الأحد 28 أيار 2023، إلى «اتفاقٍ من حيث المبدأ» لرفع سقف دين الحكومة الاتحادية. ويرفع الاتفاق سقف الدين لمدة عامين ويقلص الإنفاق خلال الفترة نفسها. كما يشمل استرداد الأموال التي كانت مخصصة لمكافحة جائحة كوفيد-19 ولم تستخدم، وتسريع عملية منح الموافقات لبعض مشروعات الطاقة، وبعض شروط العمل الإضافية لبرامج المعونة الغذائية للأمريكيين الفقراء.
الآثار النظرية للتخلف الأمريكي المفترض عن السداد
بالنسبة للولايات المتحدة فإن قضية الدين الوطني هي مسألة نفوذ اقتصادي من شأنه أن يسمح لقوة أو أخرى بالاستيلاء على السلطة في العام المقبل. لذلك، فإن المفاوضات مستمرة. بيد أن العواقب النظرية المترتبة على العجز عن سداد ديونها مدمِّرة إلى الحد الذي يجعل التوصل إلى حل وسط، مهما كان مؤقتاً، أمراً لا مفر منه.
عجز الولايات المتحدة عن سداد ديونها من شأنه أن يؤدي إلى أزمة اقتصادية عالمية هائلة. ستفقد الولايات المتحدة نفسها أخيراً ثقة بقية العالم بشكلٍ حاسم. ستشهد انكماشاً اقتصادياً غير قابل للاستعادة، وسيفقد ملايين الأشخاص وظائفهم، وستضطر الدولة إلى خفض الإنفاق بشكل كبير أو إعادة توجيهه لسداد جزء من الديون من أجل حفظ ماء الوجه دولياً.
وكما يشير مجلس العلاقات الخارجية العالمي (CFR)، فإن «تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها يمكن أن يسبب فوضى في الأسواق المالية العالمية. لطالما دعمت الجدارة الائتمانية لسندات الخزانة الأمريكية الطلب على الدولار الأمريكي، مما ساعد على تعزيز قيمته والحفاظ على مكانته كعملة احتياطية في العالم. أي ضربة للثقة في الاقتصاد الأمريكي، سواء كانت حالة تخلف عن السداد أو عدم الثقة المحيطة به، يمكن أن تجبر المستثمرين على بيع سندات الخزانة الأمريكية وبالتالي إضعاف الدولار».
لكن اقتصادات العالم بأسره المرتبطة بالدولار ستشهد أيضاً عواقب سلبية في شكل تدفق رأس المال إلى الخارج (بسبب انخفاض الاستثمار)، والتضخم المتسارع، وإمكانية انخفاض قيمة عملاتها الوطنية.
«لكن المأساة الاقتصادية لبلد ما هي فرصة ذهبية لبلد آخر»، تحذر الطبعة الأمريكية من «فورين بوليسي»: «خوفاً من العقوبات من الولايات المتحدة، سعت روسيا والصين منذ فترة طويلة إلى استبدال الدولار باليوان... وتدرس ما تسمى بدول البريكس إنشاء عملة مشتركة للتعجيل بالتخلص من الدولار. قد يكون التخلف عن سداد الديون الوطنية كافياً لإقناع دول ثالثة بأن الولايات المتحدة ليست ذات مصداقية وأن اقتصاداتها ستكون أفضل حالاً في الاستثمار في موسكو وبكين»!
آفاق أزمة سقف الدين في الولايات المتحدة.. إلى أين؟
رغم الوصول إلى الاتفاق المبدئي على رفع سقف الدين الوطني للولايات المتحدة فإن اتجاهات الأزمة سوف تستمر.
يتوقع مكتب الميزانية في الكونغرس أن صافي مدفوعات الفائدة على الدين العام سيتجاوز الإنفاق الدفاعي بحلول عام 2029. وفي غضون عشر سنوات فقط، من المتوقع أن تمثل مدفوعات الفائدة 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بـ2.8% للدفاع.
وهذا يسبب القلق بين «المحافظين الجدد» الأمريكيين وجماعات الضغط ذات المجمع الصناعي العسكري. إنهم يعارضون أي اتفاقيات من شأنها أن تحدّ نظرياً من الإنفاق العسكري، بما في ذلك «أوكرانيا». ومع ذلك، في هذه الحالة، سيتعين على الولايات المتحدة على المدى الطويل إنفاق أموال الميزانية بشكل أساسي لسداد ديونها ودفع تكاليف العمليات العسكرية.
وفقاً للعديد من الاقتصاديين يمكن أن ينمو هذا المخطط الهرمي لسندات الدين الأمريكي دون عواقب وخيمة طالما أنه لا يزال هناك طلباً على هذه السندات في السوق، خاصة من الخارج. لكن بعد مصادرة الاحتياطيات الروسية، ثمة عدد أقل وأقل من الناس على استعداد لشراء هذه الأوراق المالية السامة. عندما يكون بنك الاحتياطي الفيدرالي هو المشتري الوحيد، فإن كل الأموال ستذهب لتعظيم التضخم في الولايات المتحدة. وهو الأمر الذي يحدث بالفعل».
ليس هنالك من حل سوى إلغاء الدولرة
مع نمو الدين الوطني الأميركي، أصبحت مسألة العجز المحتمل عن سداد الديون أكثر نشاطاً. في العقد المقبل، لن تكون الولايات المتحدة قادرة على سداد جزء على الأقل من ديونها. وسوف تتوقف عن القيام بذلك، مستفيدة من الذرائع السياسية، كما حدث بالفعل مع أصول النقد الأجنبي الروسية الموضوعة في الخارج.
السبيل الوحيد للخروج من المأزق بالنسبة لبقية العالم يتلخص في التخلص من الدولرة، ورفض الاستثمار في الأوراق المالية الأميركية، والحد من المعاملات بالدولار. وكلما أسرعت دول العالم في الانفصال عن هذا النظام، الذي يتجه نحو انهيار حتمي، زادت فرصها في البقاء.
حقيقة أن التناقضات السياسية بين «الديمقراطيين» و«الجمهوريين» في الولايات المتحدة تهدّد الآن الاقتصاد العالمي بأكمله يجب أن تصبح حافزاً إضافياً للتخلي عن الدولار والبحث عن حلول جديدة - عملة عالمية بديلة أو عملة جديدة أو شيء آخر يتفق عليه المتضررون من الهيمنة الأمريكية. فالتناقضات الداخلية في الولايات المتحدة لن تؤدي إلا إلى زيادة مثل هذه المخاطر في المستقبل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1124