تراجع التصنيع في أوروبا
أورينتال ريفيو أورينتال ريفيو

تراجع التصنيع في أوروبا

أثبتت أزمة الطاقة أنّها تمثّل تحدياً خطيراً لقوة الاقتصاد الأوروبي. أضرّت أسعار الغاز المرتفعة بشكل قياسي في العام الماضي 2022 بالقدرة التنافسية للصناعات الأوروبية وأجبرتها على البحث عن ظروف أكثر ملائمة كي تعمل فيها. وبالتزامن مع الأزمة في «العالم القديم»، كان لإجراءات الولايات المتحدة- مثل: قانون مكافحة التضخم الذي يتضمن إعانات سخية للشركات المستعدة لتطوير الاقتصاد الأخضر- قد زادت من معاناة ومخاطر دول الاتحاد الأوروبي. أدّى هذا الوضع الذي خلقه القانون الأمريكي إلى تعقيد العلاقات بين واشنطن وبروكسل، التي لم تتمكن من تبرير قيام الأمريكيين بجذب الشركات الأوروبية.

ترجمة: قاسيون

كانت أزمة الطاقة حادة بشكل خاص في القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل: الزجاج والمعادن والكيماويات والأسمدة والورق والسيراميك وإنتاج الإسمنت. كانت هذه الصناعات مسؤولة عن توظيف ثمانية ملايين شخص في أوروبا، وفي ذروة الأزمة أعلنت بعض الشركات العاملة في هذه القطاعات، وبصوتٍ عالٍ وواضح ودون مواربة، بأنّها ستنتقل إلى أمريكا. بل وبدأت في نقل إنتاجها عبر المحيط الأطلسي. في تشرين الأول على سبيل المثال: أعلنت BASF أكبر شركة كيميائيات في العالم بأنّها ستخفض الإنتاج في أوروبا، وليس ذلك بشكل مؤقت فحسب، بل سيكون التخفيض بشكل دائم. ثمّ في تشرين الثاني أعلنت فولكس فاجن Volkswagen، فخر الصناعة الألمانية، بأنّ أوروبا لم تعد قادرة على المنافسة من حيث التكلفة في العديد من الصناعات، وخاصة في أسعار الكهرباء والغاز.
نتيجة لذلك، بدأ الكثير من الناس– بمن فيهم القادة الأوروبيون– يتحدثون عن تراجع التصنيع في أوروبا: أي انهيار الصناعة الأوروبية بأكملها. وفقاً لبوليتيكو، فإنّ مواجهة هذا التهديد ستكون إحدى أولويات بروكسل في عام 2023. على سبيل المثال: دعا المفوض الأوروبي للسوق الداخلية تييري بريتون- في رسالة تهنئة مرسلة لموظفيه في يوم رأس السنة الجديدة- إلى بذل الجهود لتعزيز القدرة التنافسية الدولية لأوروبا، وأخبرهم بأنّ الصناعة ليست مجرّد أولوية بل هي أولوية قصوى. وكما كتب بريتون: «بدون قاعدة تصنيع قوية، فإنّ أمن الإمدادات في أوروبا والقدرة على التصدير وخلق فرص عمل، كلّها في خطر».
وكما كتبت صحيفة بوليتكو، فإنّ ذروة أزمة الطاقة بالنسبة للصناعة الأوروبية قد حدثت في كانون الأول الماضي. ومع ذلك تمكنت ألمانيا– وهي الاقتصاد الأول في القارة الأوروبية– من خفض استهلاكها من الغاز بحلول نهاية العام الماضي بنسبة 15٪، مع الحرص على عدم حدوث انخفاض مماثل في الإنتاج. لكن بأيّة حال لا يزال من السابق لأوانه الاسترخاء رغم التوقعات بانخفاض أسعار الغاز على المدى طويل الأجل، فأسعار الغاز لا تزال تقارب 6 أضعاف متوسط السعر في السنوات العشر الماضية، وأكثر من 4 أضعاف السعر الذي يحصل عليه المنافسون عند شرائهم الغاز، ومثال هؤلاء المنافسين الأبرز، هي الولايات المتحدة. لا تزال بروكسل تخشى أن تبدأ الشركات الكبيرة في نقل الإنتاج إلى قارات أخرى، إن لم يكن إلى الولايات المتحدة فإلى آسيا، في حين أنّ الشركات المتوسطة والصغيرة سيكون مصيرها الإفلاس والإغلاق بكلّ بساطة.

خسارة الإنتاج وخسارة الوظائف

إنّ خسارة الإنتاج تعني خسارة عدة آلاف من الوظائف، الأمر الذي ستكون له عواقب سياسية لا يمكن التنبؤ بالمدى الذي قد تصل إليه في أوروبا ودولها. وفقاً لما ذكره لوك تريانغل، الأمين العام لاتحاد العمال الصناعيين في أوروبا، وهو اتحاد يضمّ ملايين العمال الصناعيين، فإنّ الانخفاض المتسارع في الإنتاج في وسط وشرق أوروبا يمكن أن يقلل على سبيل المثال من دعم الناخبين للاتحاد الأوروبي برمته. كما يعتقد تريانغل بأنّ الصناعة الأوروبية اليوم تمرّ ليس بأزمة مؤقتة، بل بأزمة قد تؤثر على وجودها.
وفقاً لتحليل سوق العمل السنوي للمفوضية الأوروبية، انخفض معدل البطالة في الاتحاد الأوروبي إلى 6٪ في تموز 2022، لكنّ القائمين على التحليل يحذرون من أنّ ارتفاع أسعار الطاقة سيكون التهديد الرئيسي للعمال في الاتحاد الأوروبي في العام الحالي 2023، وخاصة الذين يعملون في الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة.
لا تزال آثار ارتفاع أسعار الطاقة طفيفة، لكنّها ظاهرة، ويمكن ملاحظتها اليوم بالفعل في سوق العمل، وفي الخسائر الكبيرة للعمّال. وكما أشار القائمون على تحليل يوروفاوند Eurofound، وهو تحليل أجرته المؤسسة الأوروبية لتحسين ظروف المعيشة والعمل في البلدان الأوروبية، فإنّ الخسائر في سوق العمل قد بدأت لتوّها فقط وهي مستمرّة في التعمّق.
الجميع في أوروبا يريدون من بروكسل أن تتخذ إجراءات من شأنها إنقاذ القاعدة التصنيعية في أوروبا. باريس على سبيل المثال: تدعو إلى تبني استراتيجية «صُنع في أوروبا» شاملة بهدف حماية الصناعة الأوروبية. وفي قمّة الاتحاد الأوروبي في كانون الأول الماضي، صرّح القادة الأوروبيون أنّهم يتفهمون تعقيد الوضع، وطالبوا المفوضية الأوروبية بوضع تدابير في أقرب وقت ممكن لمكافحة أزمات الطاقة والقدرة التنافسية التي تقوّض الاقتصاد الأوروبي. كان هذا الموضوع هو الرئيسي في قمة الاتحاد الأوروبي في شباط الماضي، لكنّ العملية صعبة وطويلة ومعقدة، بسبب الخلافات العديدة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي حول اتخاذ تدابير محددة. تعتقد بروكسل نفسها أنّه أولاً وقبل كلّ شيء، يجب أن تتركز الجهود على تخفيف القواعد الصارمة المتعلقة بالمساعدات والإعانات الموجودة في الاتحاد الأوروبي، وعلى الدعم المالي لقطاع التصنيع.
على المدى القصير، ستلجأ السلطات الأوروبية المعنيّة على الأرجح لإيجاد طريقة لاستخدام الأموال الموجودة لديهم بالفعل، على سبيل المثال: صندوق «الجيل التالي لكوفيد أوروبا» الذي يتمّ استخدام الأموال فيه لاستعادة وإحياء الاقتصاد الأوروبي بعد جائحة فيروس كورونا. وكذلك هناك صندوق تمويل «RePower EU» الذي يفترض به مساعدة دول الاتحاد الأوروبي على التخلي عن استخدام موارد الطاقة الروسية.
في اللحظة الحالية، يمكن ملاحظة أقوى ردود الفعل على تهديد التراجع عن التصنيع بشكل رئيسي على المستويات الوطنية. في ألمانيا على سبيل المثال، تمّ تخصيص 200 مليار يورو لدعم الصناعة الألمانية وسكان البلاد، والاتجاه الذي تسير فيه هو وضع سقف لما تدفعه المؤسسات والشركات ثمناً للغاز والطاقة. أعلنت باريس عن قانون جديد سيدعم نمو الاقتصاد الأخضر.
أعلن وزير المالية الألمانية كريستيان ليندنر مؤخراً، عن ثقته بأنّ أوروبا وألمانيا ستتجاوزان هذه الأزمة دون أن ينهار الإنتاج الصناعي. لكن يبقى هناك اقتصاديون وسياسيون يعتقدون أنّه دون تدخل من بروكسل على مستوى عابر لكامل أوروبا، فالبلدان التي ليست لديها قدرات ألمانيا لتنفق مئات مليارات اليوروهات من أجل دعم قطاع الأعمال فيها، ستواجه وقتاً صعباً جداً.
لكن تبقى كلّ هذه إجراءات قصيرة المدى، فماذا عن المدى المتوسط والطويل؟ وصف كثيرون من الخبراء خطط بروكسل غير واقعية فيما يخصّ دعم الاقتصاد الأخضر، وبأنّها لا تصل إلى مرتبة منافسة برامج الدعم والإعانات الأمريكية. وكان آخرون متشككين في قدرة القادة الأوروبيين الحاليين على اتخاذ ما يلزم من إجراءات لحماية أوروبا. سيكون علينا انتظار بعض الوقت قبل التمكن من إطلاق حكم.

بتصرّف عن:
Deindustrialization Of Europe

معلومات إضافية

العدد رقم:
1113