الأمْوَلة تدمر الابتكار: شركة سيسكو مثالاً
بعد أن وصلت الولايات المتحدة إلى الريادة العالمية في أنظمة الاتصالات والإنترنت على مدى العقدين الماضيين، تخلفت عن المنافسين العالميين– بما في ذلك الصين– في البنية التحتية للاتصالات، وتحديداً الجيل الخامس وإنترنت الأشياء. هذا الفشل بالتزامن مع التوترات الاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية التي يخلقها، ليس سببه نقص الاستثمار الحكومي الأمريكي في المعرفة المطلوبة لإحداث ثورات تكنولوجية، وليس بسبب قلّة الطلب المحلي على المعدات والأجهزة والتطبيقات التي يمكن أن تستفيد من هذه البنية التحتية. المشكلة هي في إهمال الشركات التجارية الرئيسية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها للمتطلبات، كي تتولى زمام المبادرة في القيام بالاستثمار في عملية التعلم المطلوب لتوليد منتجات متطورة للبنية التحتية للاتصالات.
ترجمة: قاسيون
يمكن لشركة سيسكو Cisco Systems أن تلعب دور المثال الممتاز على عجز النظام على تحقيق ابتكار مستدام. فالشركة التي تأسست في 1984 حققت نمواً هائلاً في التسعينيات، وأصبحت أحد أكبر بائعي معدات الشبكات التي أسهمت في ثورة الإنترنت. ثمّ في 2001 قررت إدارة الشركة أن تخصص سيولة الشركة لإعادة شراء الأسهم في سوق البورصة، بهدف إعطاء تعزيز تلاعبي لسعر أسهمها، وذلك بدلاً من الإنفاق على الاستثمار في التعلم المنظم المطلوب، لتصبح الشركة رائدة في معدات الاتصالات في عصر الجيل الخامس وإنترنت الأشياء.
ما بين 2001 و2022، أنفقت شركة سيسكو 152.3 مليار دولار– أي 95٪ من دخلها الصافي خلال هذه الفترة– على إعادة شراء الأسهم كي يرتفع سعرها. تمّت إضاعة هذا التمويل من أجل «تعزيز قيمة حملة الأسهم» ناهيك عن الـ 55.5 مليار دولار التي دفعتها شركة سيسكو لحاملي أسهمها. ولم تكتفِ الشركة بامتصاص كامل ربحها، بل دخلت المديونية، وبدأت بسحب المال من أصول الشركة لتمويل عملياتها غير الابتكارية.
كانت سيسكو قبل ذلك مثالاً على التنظيم والاندماج الداخلي بين الأفراد والأقسام، القادر على التغيير السريع الذي تتطلبه شبكات المؤسسات، الأمر الذي أدّى إلى الحد من معدل دوران الموظفين في سوق العمل، شديد الحركة، المعروف في وادي السيلكيون. للسيطرة على ابتكارات شبكات المؤسسات الناشئة بسرعة، واصلت الشركة سياسة اتبعتها منذ إنشائها وهي النمو عبر الاستحواذ. ما بين العام المالي 1994 وصولاً إلى العام المالي 2001، تمكنت سيسكو من إتمام 71 عملية استحواذ، واكتسبت سمعة هائلة في قدرتها على خلق نظام لإدماج الموظفين الجدد من الشركات المستحوذ عليها في عملية التعلم الهيكلي لديها.
في عام 2000 أتمت الشركة سبع عمليات استحواذ كبيرة الحجم، جعلتها تتحدى شركات الاتصالات الأقدم، مثل: ألكاتيل وإيريكسن في مجال سوق معدات البنية التحتية. وحتى تتمكن من مجاراة هذه النقلة في كونها بائعاً رئيسياً للمعدات عالية الجودة والمعقدة لمقدمي خدمات الاتصالات، استحوذت في العام نفسه على معمل تصنيع يمتدّ على مساحة 110 هكتار، وذلك من أجل تجميع واختبار معدات البنية التحتية. بدأت الشركة باستقطاب المهندسين الكبار من شركات كبيرة، ما أدى إلى توظفيها 2500 شخص في مصنعها الجديد.
الانتقال الحتمي إلى الأمولة
في أول عملية طرح أولي للأسهم في بورصة ناسداك في شباط 1990، أصبحت أسهم شركة سيسكو جزءاً لا يتجزأ من نمو الشركة. تمكنت الشركة من تطبيق عملية التوسع من 70 مليون دولار في الإيرادات و254 موظفاً في 1990، إلى 22.3 مليار دولار في الإيرادات و38 ألف موظف في عام 2001. كانت الشركة تعتمد بشكل كبير على أسهمها كعملة تجميعية وتعويضية. تمّ دفع 89٪ من ثمن عمليات الاستحواذ التي أجرتها ما بين 1994 و2001 بمقدار 43.2 مليار دولار عبر الأسهم، وكانت في السنوات الأخيرة من التسعينيات تتمتع بميزة تمويلية كبيرة لسعر سهمها المرتفع عندما تقوم بعمليات الاستحواذ.
كما تمّ تضمين جميع موظفي الشركة تقريباً في برنامج خيارات الأسهم واسع النطاق. ومع مضاربات السوق التي أصبحت الدافع الرئيسي لسعر سهم شركة سيسكو، تمّ تقدير المكاسب الوسطية التي حققتها للموظفين حول العالم– باستثناء المدراء التنفيذيين الخمسة الأكبر ذوي المداخيل الأعلى– هي 139500 دولار على طول 18 ألف موظف في 1999، و291000 دولار عبر 27500 موظف في 2000، و105900 دولار على طول 36 ألف موظف في 2001.
في 1999 حصل المدير التنفيذي للشركة على مكاسب من خلال ممارسة خيارات الأسهم بقيمة 120.8 مليون دولار، وفي عام 2000 وصلت المبالغ إلى 156 مليون دولار لتشكل 99٪ من كامل مستحقاته في هذين العامين. ثمّ ما بين 2001 و2003 لم يحصل المدير التنفيذي إلى على دولار واحد، كراتب، ولم يمارس أيّة خيارات أسهم، لكن بالرغم من سقوط أسعار أسهم الشركة، منح مجلس الإدارة للمدير التنفيذي خيارات أسهم جديدة، وفيرة وبأسعار منخفضة بشكل كبير. وما بين 2004 و2007 تخطى 55.1 مليون دولار من خيارات الأسهم.
لقد سقط سهم شركة سيسكو في عام 2001 مع تلاشي المضاربة، وذلك بالرغم من أنّ عائدات سيسكو قد ازدادت إلى 200 مليار دولار في 2001، بزيادة قدرها 18٪ عن العام السابق 2000. أدى ذلك إلى فقدان الشركة ميزة استخدام أسهمها كعملة تجميعية، وبدأت منذ 2004 تستخدم النقود من أجل إتمام عمليات الاستحواذ. أثّر هذا على العائدات بشكل كبير، ولكن الكارثة بدأت مع القرار في أيلول 2001 حيث أعلنت عن 3 مليار دولار تُنفق على مدة عامين من أجل برامج إعادة شراء الأسهم، لتنضم بذلك إلى الكثير من الشركات الأمريكية التي أرادت الحفاظ على عائداتها بعد انهيار سوق الأسهم.
في العقد ما بين 2001 و2011 أنفقت سيسكو 71.6 مليار دولار وهي تشتري أسهمها، وذلك يعادل 126٪ من دخلها الصافي، لتوزع 47 مليار دولار أرباح الأسهم على حاملي الأسهم في 2011. بين 2012 و2021 أعادت شراء أسهمها بقيمة 72.5 مليار دولار: 81٪ من دخلها الصافي، ووزعت أرباح الأسهم في 2022 بقيمة 11.8 مليار دولار.
إنّ الشركات المسجلة في سوق أسهم S&P 500، بما في ذلك سيسكو كواحدة من العشرة الكبار، سجلت رقماً قياساً في الإنفاق على إعادة شراء أسهمهم بلغ 850 مليار دولار في عام 2021. وفي عام 2022 فاق هذا المبلغ 900 مليار دولار. إنّ الإيديولوجيا المدمرة وغير المنطقية التي تنص على أنّه من أجل «الفاعلية الاقتصادية» يجب توجيه عمل الشركة بهدف تعظيم ربح حاملي الأسهم، تعيق الشركات الأمريكية عندما يتعلق الأمر بالمنافسة العالمية في خصوص مجالات التكنولوجيا الحساسة. كان تطور شركة سيسكو مثالاً صارخاً على كيفية تحوّل الابتكار إلى أمولة. ربّما بدلاً من توجيه الاتهامات للشركات الصينية، ومحاولة التحالف مع اليابان وكوريا الجنوبية للمنافسة في مجال البنية التحتية التكنولوجية اليوم، كان على هذه الشركات أن تستثمر أموال التلاعب في الاستثمار.
بتصرّف عن:
Losing Out in Critical Technologies: Cisco Systems and Financialization
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1112