ساعد الأسهم على «السقوط» بتقرير مالي!
ماذا علينا أن نتوقع من «رأس المال المالي»؟ أن يطوّر الاقتصاد الحقيقي؟ أن يؤدي إلى اختراقات مبتكرة في التكنولوجيا؟ على المستوى المحلي وعدنا أصحاب «السوق الاجتماعية» كما وعد مدراؤهم العالميون بقيّة العالم بأن المنافسة ستقوم بتحسين إنتاجية السلع والخدمات، وبأسعار تضاهي جيوب معظم المواطنين، ولكن لا نجد اليوم إلّا احتكار وخلق الأزمات وضرب الإنتاج لصالح أرباح الاستيراد. إنّ النهب الدولاري المحلي من قبل «الليبراليين المحليين الأعزاء» هو جزء من الدولرة ورأس المال المالي المدمر في جميع أنحاء العالم، والذي تمكن من السيطرة عبر أدوات التمويل وأسواق الأسهم حتّى على أرباح رأس المال الحقيقي. قصّة اليوم هي حول قدرة شركة «تحليل مالي» بالتعاون مع شركة «صحافة مالية» على تحقيق أرباحٍ خيالية من العدم عبر نشر «تقارير مالية» مدمرة في الوقت الصحيح.
في نهاية الشهر الماضي كانون الثاني 2023 فجّر تقرير تمّ نشره في صحيفة الإيكونوميست، الصحيفة المملوكة بجزء منها لعائلة روتشيلد والناطقة بإخلاص باسم رأس المال المالي العالمي، قنبلة «تحليل مالي» عن إمبراطورية الملياردير الهندي غواتام أداني. خلال يومي عمل من صدور التقرير، انخفضت القيمة السوقية لمجموعة أداني بقرابة الثُلث بمقدار 47 مليار دولار، وتهاوت ثروة أداني الشخصية من 122 مليار دولار في نهاية العام الماضي إلى 93 مليار دولار في نهاية الشهر الأول من هذا العام 2023.
لكن ما الذي يعمل به أداني ويجعله عرضة لهذه السقطة بعد تقرير منشور في صحيفة أجنبية؟ أداني الذي يحبّ أن ينشر عن نفسه على الدوام بأنّ عبقرياً بدأ بيع الألماس والمعادن والقمح قبل أن ينهي المدرسة حتّى، تعمل شركاته اليوم في عدد من الموانئ الكبرى في الهند، وتخزن 30٪ من قمح الهند في صوامعها، وتدير خُمس خطوط الطاقة في الهند، وتدير رُبع النقل التجاري في الهند، وتنتج خُمس الخرسانة المستخدمة في البلاد، ولديها استثمارات في موانئ خارجية في أستراليا وسريلانكا وحتّى «إسرائيل». حققت مجموعة أداني العام الماضي عائدات بقيمة 25 مليار دولار، وربحاً صافياً بقيمة 1,8 مليار دولار. ووفقاً للإعلام فإنّ مجموعة أداني تتجهز في الأعوام الخمسة القادمة لإنفاق 50 ملياراً على الاستثمار في الطاقة المتجددة والهيدروجين. بهذه السطور المختصرة يمكننا أن ندرك بأنّ أداني هو «عبقري» الرأسمالية الهندية، فما الذي حدث وأدّى إلى هذه السقطة؟
قبل التحدث عن السقطة، من المهم أن نذكر بأنّ هذا المقال ليس مخصصاً لدراسة أعمال مجموعة أداني ولا اتخاذ موقف تحليلي منها، بل مهمته التركيز على «السقطة» غير المبررة في سياق الأعمال للشركة. الذي حدث أنّ شركة تحليل مالي واستثمار صغيرة موجودة في نيويورك، تُدعى «هندنبرغ للأبحاث Hindenburg Research»، نشرت تقريراً تتهم فيه مجموعة أداني بالتضخيم المصطنع لقيمة أسهمها، وأطلقت عليها اسم «الحيلة الأكبر في تاريخ الشركات».
ظهر هذا التقرير تماماً في الأمسية التي تمّ فيها الطرح الثانوي لأسهم الشركة الرائدة في المجموعة: أداني إنتربرايس، وجاء فيه: «نحن قلقون بشكل كبير من هذه المحاولة المتهورة والمتعمدة من قبل منظمة أجنبية لتضليل مجتمع الاستثمار والجمهور العام». ورغم مسارعة أداني والمسؤولين في الشركة لإنكار هذه التهم، لم يمنع الإنكار الهلع وحدوث عمليات بيع أصول من قبل من يريدون التخلّص منها، ما أدّى إلى تهاوٍ في الأسعار. لكن هل هناك حقاً أمر ما حدث للشركة التي تعتبر واحدة من محركات النمو الاقتصادي في الهند؟
مساعدة الأسهم على «السقوط»
لنجيب عن السؤال علينا الآن أن نلقي نظرة على «هندنبرغ للأبحاث» التي مقرها في نيويورك. تمّ تأسيسها في عام 2017 من قبل خريج من جامعة كونيتكت في إدارة الأعمال يدعى ناثان أندرسون. على أيّة حال، لم يكن تعليمه الجامعي هو مصدر براعته، بل كما ذكر بنفسه على صفحته على وسيلة تواصل الأعمال الاجتماعية لينكدن: وظيفته كسائق سيارة إسعاف في «إسرائيل». فكما يقول منحه ذلك «خبرة التفكير والتصرف تحت ضغط شديد». وهو الآن يعمل في مجال «تحليل رأس المال والائتمان وسوق البيع الآجل والبحث عن المخالفات المحاسبية وسوء الإدارة والمعاملات غير المفصح عنها بين الأطراف».
لكن المعلن ليس أكثر من مجرّد واجهة إعلامية، فالحقيقة أنّ شركة هندنبرغ شركة مالية تعيش على هامش البيع على المكشوف للسندات والأسهم وغيرها من الأدوات المالية. لكن كيف تفعل ذلك؟
لنبدأ بالقول بأنّ مثل هذا النوع من التجارة هو شراء سلعة ما بمبلغ أكبر ممّا لديك، أو حتّى دون إنفاق أموالك على الإطلاق. يمكنك بيع أصول شخص آخر وتحقيق أرباحك كمضارب. وعندما يكون لدى البائع على المكشوف سبب ليعتقد بأنّ تكلفة السندات التي تمّ الاقتراض على أساسها ستنخفض، سيسمح له هذا بإعادة شرائها بأسعار مخفضة! باختصار: الفارق بين مبيع السندات بأسعار أعلى وشرائها بأسعار أدنى هو الربح. الأمر الهام هنا بالنسبة لهؤلاء المضاربين هو مساعدة الأسهم والسندات التي يشترونها على «السقوط».
هذا هو ما تفعله شركة «هندنبرغ للأبحاث». أثار تقريرها الذي نشرته الإيكونومست مخاوف بشأن إدارة مجموعة أداني ومواردها المالية غير الشفافة. يصف التقرير شبكة معقدة من صناديق التمويل والشركات الوهمية التي يقع معظمها في موريشيوس، كما يتحدث عن 578 شركة تابعة موزعة على سبع شركات مدرجة في البورصة. وفقاً لتقرير هندنبرغ أجرت هذه المنظمات العام الماضي 6025 عملية تحويل مالي مع أطراف قريبة. يزعم التقرير أن مجموعة أداني تتلاعب بالأسهم وتحتال محاسبياً، وكذلك في أسعار أسهم الشركات المدرجة وتحرك الأموال إلى ميزانيتها «للحفاظ على مظهرها بأنّها قوية مالياً وذات ملاءة نقدية»، ويذهب للقول بأنّ المخالفات المحاسبية الواضحة والمعاملات المشكوك فيها للمجموعة كانت ناجمة عن «عدم وجود ضوابط مالية تقريباً»، وأنّه قد تمّ التحقق من سجلاتها المحاسبية التي تمّ تصديقها من «شركة محاسبة صغيرة توظف محاسبين في أوائل العشرينات في عمرهم». يتضمن التقرير أيضاً مزاعم غسيل أموال وسرقة أموال دافعي ضرائب وفساد وإنشاء شركات وهمية خارجية. لكن الأمر الذي أورده التقرير وأخاف المساهمين أنّه تمّ تضخيم أسعار أسهم المجموعة بشكل مصطنع بنسبة 85٪، ما أدّى إلى ردود فعل كبيرة جعلت الطرح الثاني للأسهم في 31 كانون الثاني لا يجذب الكثير من الاستثمارات كما هو متوقع.
لكن ما مدى عمق وكفاية تقرير هندنبرغ؟ لم يدقق أحد في نيويورك في ذلك، رغم أنّ المحكمة العليا في الهند قد تفحصت جميع التهم ورفضتها. لكن الأهم هنا ما لاحظه كثيرون لدرجة أنّه نُشر في تقرير لصحيفة فوربس: هذه ليست المرة الأولى التي تنتظر شركة هندنبرغ حتى ذروة رسملة شركة كبيرة بطرح أسهمها للبيع، لتنشر تقريراً مدمراً عنها. في 2020 تعرضت الشركة الصانعة للشاحنات الكهربائية «نيكولا» للأمر ذاته. لكن ما الذي استفادته هندنبرغ في حينه؟ ببساطة، حققت أكثر من 263 مليار دولار من تقريرها الفضائحي.
كما قلنا من قبل، ليس مهماً لهذا المقال مدى التزام شركة أداني بالقوانين الهندية أو عدمه، أو إن كانت سترفع دعوى قضائية في الولايات المتحدة ضدّ شركة هندنبرغ للإساءة لسمعتها، بل المهم أنّ تقريراً «تحليلياً» تصدره شركة «تحليل مالي» موجودة في نيويورك، وتنشره صحيفة مالية مشهورة بارتباطها برأس المال المالي في بريطانيا، قادرة على تحقيق أرباح هائلة من شركة لديها أصول حقيقية دون أن تفعل أكثر من نشر تقرير وانتظار الأسهم لتسقط.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1109