كم نهبت الإمبريالية من «دول الجنوب» عبر التبادل اللامتكافئ؟

كم نهبت الإمبريالية من «دول الجنوب» عبر التبادل اللامتكافئ؟

لطالما كان «التبادل اللا متكافئ» هو المحرك الأساسي للهيمنة والنهب العالميين. وبما أن أجور العمّال وأسعار المواد الأولية أقل بكثير في «دول الجنوب العالمي» من نظيرتها في «دول الشمال»، كان على الدول الفقيرة أن تصدِّر قطاعات من العمالة والمواد الخام أكثر بكثير مما تستورده، وهذا خلق نقلاً مستمراً للعمالة من دول الأطراف إلى دول المركز، وإثراء تلك الأخيرة على حساب إفقار الأولى.

في ورقة بحثية نشرت مؤخراً في مجلة «الاقتصاد السياسي الجديد» شارك في تأليفها ديلان سوليفان وجيسون هيكيل وأوزايفا زومكاوالا، قام الباحثون بمحاولة تحديد القيمة التي تم نهبها من دول الجنوب عبر عمليات التبادل اللا متكافئ منذ عام 1960، وهو أمر يصعب بالتأكيد التوصل إليه بشكلٍ دقيق بالكامل، لكن يمكن تقديره بشكلٍ تقريبي.
2.2 ترليون دولار


1091c


في عام واحد فقط!

للقيام بعملية التقدير، استخدم الباحثون طريقة طوّرها الاقتصادي جيرنوت كولر الذي اقترح أنه يمكن استخدام مؤشر التبادل بتعادل القوة الشرائية PPP (السعر الذي يتعين به تحويل عملة بلد ما إلى عملة بلد آخر لشراء نفس الكمية من السلع والخدمات في كل بلد) لتقييم صادرات الجنوب العالمي وفق مستوى أسعار دول الشمال. ومن خلال طرح سعر السوق الفعلي الذي حصلت عليه دول الجنوب مقابل صادراتها من هذا الرقم، يمكننا قياس قيمة السلع التي استولت عليها الدول الإمبريالية، بالاعتماد على سعر هذه السلع لدى دول الشمال ذاتها.
وبالاعتماد على طريقة كولر التي تصلح للكشف عن جانب من الحقيقة، نجد أنه في عام 2017، فقدت «الاقتصادات الناشئة والنامية»، وفق تصنيف صندوق النقد الدولي، سلعاً بقيمة 2.2 تريليون دولار لصالح «الاقتصادات المتقدمة»، وهذا يمثل خسارة فادحة ومريعة لدول الجنوب. حيث كان من الممكن لهذه الموارد أن تنهي الفقر المدقع 15 مرة! ولكن بدلاً من ذلك تم نهبها من دول المركز.


1091a


152 ترليون دولار تفسر «رفاهية» دول الشمال

هذه المكاسب «غير المتوقعة» هي مكاسب ذات فائدة هائلة للغرب. على سبيل المثال، في عام 2017، حصدت الولايات المتحدة 2,634 دولاراً للشخص الواحد من خلال التبادل اللا متكافئ مع دول الجنوب، في حين بلغت حصة كل مواطن أسترالي 3,116 دولاراً من دول الجنوب!
ومنذ عام 1990، بلغت المكاسب السنوية التي حققتها دول الشمال من عمليات التبادل اللا متكافئ 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول، وهو أعلى كثيراً من معدل النمو السنوي لدى دول الشمال. بعبارة أخرى، لولا النهب الإمبريالي، لكان الدخل الكلي في الشمال قد انخفض منذ عقود، حيث تستند المستويات غير العادية من الاستهلاك الذي يتمتع به الشمال حالياً إلى الاستغلال والفقر في دول الأطراف.
يبين الشكل الأول المرفق إجمالي القيمة التقديرية التي نهبتها الإمبريالية من دول الجنوب منذ عام 1960. حيث خسر الجنوب العالمي بشكل عام ما يقارب 62 تريليون دولار (بالدولار الثابت لعام 2011)، أي ما يعادل 97% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2017. ولو كان هذا الفائض متاحاً لدول الجنوب، لأمكن إعادة استثماره في التنمية الاقتصادية المحلية. وإذا افترضنا أن هذا الفائض كان سينمو بنفس معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لدول الجنوب، فإنه الآن يعادل 152 تريليون دولار!


1091b


تكاتف القمع والانقلابات والمؤسسات الدولية

تشير النتائج التي توصّل إليها الباحثون إلى أن هذه العلاقة الاستغلالية قد ساءت بمرور الوقت. حيث يبيّن الشكل الثاني سلسلة زمنية توضّح الاستنزاف السنوي الذي تعرضت له دول الأطراف خلال فترة ما بعد الاستعمار. ومنه يتكشف أنه خلال ستينيات القرن الماضي، خسر الجنوب حوالي 38 مليار دولار سنوياً، أي ما يزيد قليلاً عن 1% من الناتج المحلي الإجمالي لدى دول الجنوب. وبحلول عام 2005، بلغ النهب الذي تعرّضت له دول الأطراف ما يقارب 3 تريليونات دولار، أو 9% من الناتج المحلي الإجمالي لدول الجنوب.
بطبيعة الحال، كانت هذه الزيادة الوحشية في القيمة المنهوبة من دول الجنوب مدفوعة بهجومٍ إمبريالي منسّق على «دول العالم الثالث». حيث تدخّلت دول الشمال لقمع الأجور والأسعار لدى دول الجنوب: خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أطاحت القوى الغربية بقوة السلاح بالحكومات المستقلة، ونصّبت الطغم العسكرية التي سحقت النقابات والعمل المنظم، كما هو الحال في الكونغو (1960)، وإندونيسيا (1965)، وشيلي (1973). وخلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تولى صندوق النقد والبنك الدوليين (المسيطر عليهما إمبريالياً) مهمة إجبار دول الجنوب العالمي على إلغاء تنظيم السوق وضرب القطاع العام.
في الوقت ذاته، جهدت دول الشمال من أجل الحفاظ على القوة الاحتكارية لشركاتها، وإبعاد أسعارها المرتفعة عن المنافسة. فقد ضغط صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية على دول الجنوب لإجبارها على إلغاء الرسوم الجمركية، الأمر الذي أدى إلى تدمير قطاعات صناعية وطنية كاملة في الجنوب. وقد أعطى هذا السلوك رأس المال الاحتكاري التابع لدول الشمال سيطرة ساحقة على السوق الدولية والتبادل التجاري، حيث دفعت هذه السياسات الإمبريالية الارتفاع الكبير في معدّلات الاستغلال منذ عام 1960.

الصين تعكس الاتجاه... والدول الصاعدة تتأهب

يلاحظ أنه منذ عام 2005، بدأ ينخفض حجم القيمة المنهوبة إلى حد ما. وهذا لا يعود إلى تغيير في السياسات الإمبريالية، بل كان مدفوعاً بالكامل تقريباً بتغيير بعض السياسات في الصين - وهي واحدة من الدول القليلة التي نجت من التغييرات البنيوية التي فرضها الغرب قسراً على دول الجنوب العالمي - والتي واصلت عملية حماية الصناعة المحلية. أما بالنسبة لبقية دول الجنوب، فقد استمر النهب الاستعماري الجديد على مستويات لم يسبق لها مثيل تاريخياً. إلا أن هذا النهب مهدّد اليوم جدياً بفعل الصلابة التي تبديها الدول الصاعدة عالمياً ومن يحوم في فلكها في ضرب منظومة التبادل اللا متكافئ من خلال استبعاد الدولار وتوطين الصناعات والتكنولوجيا، وغيرها من الآليات التي تشتدّ وتيرتها اليوم بدفعٍ من المواجهة الروسية الغربية في أوكرانيا.


1091-2


فرضية «الجنوب المتخلف» تتهاوى

من الانتقادات الشائعة لنظرية التبادل اللا متكافئ أن الفروق العالمية في الأسعار تعكس الاختلافات في الإنتاجية؛ حيث العمال الجنوبيون أقل كفاءة من العمال الشماليين، وبالتالي، فإن أجورهم المنخفضة لا تعني نقلاً للقيمة من دول الجنوب إلى دول الشمال.
لكن هذه الفرضية لا أساس لها من الصحة، وتحديداً عندما يجري الحديث عن الإنتاج من أجل التجارة الدولية. حيث أن قطاع التصدير في دول الجنوب مجهّز بتكنولوجيا متقدمة وفائقة الحداثة يوفرها رأس المال الأجنبي. كما أن العمال في دول الجنوب يخضعون لقمعٍ إجرامي متواصل ودائم لا يتعرّض له - حتى الآن- أمثالهم في دول الشمال.
ومثال على ذلك، وجدت إحدى الدراسات التي أجريت على مناطق تجهيز الصادرات في المكسيك أن عمال المعادن المكسيكيين، وعمال الإلكترونيات، والخياطات ينتجون إنتاجاً أكثر بنسبة 10% إلى 40% في الساعة الواحدة مقارنة بنظرائهم في الولايات المتحدة. ورغم هذه الميزة الإنتاجية، نجد أن المكسيك خسرت 1,619 دولاراً للفرد الواحد من خلال انخفاض قيمة صادراتها في عام 2017. فالأجور والأسعار المنخفضة في قطاع التصدير في المكسيك لا تعكس انخفاض الإنتاجية، بل تعكس مقدار النهب الإمبريالي.
وتشير هذه النتائج إلى أن الدول الغنية لا تزال تعتمد على استغلال الأراضي وبنى الإنتاج في الجنوب العالمي من أجل الحفاظ على مستويات عالية من النمو والاستهلاك. وإذا أردنا إنهاء الفقر وضمان حصول جميع الناس على الموارد التي يحتاجون إليها للعيش بشكل جيد، يجب تغيير بنية الاقتصاد العالمي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1091
آخر تعديل على الثلاثاء, 11 تشرين1/أكتوير 2022 14:54