قوة مبادرات الدول الصاعدة: نموذج من بنك التنمية الجديد
تفقد المؤسسات الدولية الأساسية التي قامت استناداً إلى نظام «بريتون وودز» دورها في العالم بشكلٍ متسارع، حيث تفقد بسرعة ثقلها الاقتصادي الذي اكتسبته منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي هذه اللحظة المفصلية التي تعيشها البشرية الآن، يظهر للعلن الدور الفاعل للدول الصاعدة في العالم، ما يدفع إلى تهديد الأسس «المتينة» لهيمنة الغرب لا بالطرق التدميرية التي عرفتها البشرية خلال القرن الماضي، بل بنموذج جديد يوفّر نظاماً بديلاً قادراً على وضع حد للهيمنة الغربية دولياً بأقل خسائر ممكنة على باقي العالم.
في الأصل، نشأت الضرورة لبناء واقع بديل على المستوى الدولي كنتيجة مباشرة لمحاولات الغرب الحثيثة لممارسة الهيمنة لا في الجانب السياسي الدبلوماسي فحسب، بل وفي الجانب الاقتصادي: حيث بدأت المؤسسات القائمة على «بريتون وودز» - صندوق النقد والبنك الدولي- في فرض مطالب سياسية عند تقديم الديون لدول «الجنوب العالمي». في مقابل ذلك، تقترح منظومة دول «بريكس» على سبيل المثال مفهومها الخاص لبناء مستقبل الاستقرار المالي عبر مؤسسات مثل «بنك التنمية الجديد NDB».
الظلم الغربي أساس عملية تشكيل البديل
كان الحافز الرئيسي لإنشاء «بنك التنمية الجديد NDB» هو التحول داخل المؤسسات المالية الدولية القائمة إلى دول الأسواق الناشئة (أنظر الشكل). حيث أنهت حصص التصويت الضئيلة التي حصل عليها ممثلو الدول النامية في المنظمات الاقتصادية الدولية أية آمال لدى الدول الأعضاء في مجموعة «بريكس» في بناء هيكل مالي عالمي داخل مؤسسات «بريتون وودز» بشكل مستقل عن مجريات السياسة في العالم والإمكانات الاقتصادية لكل بلد.
والواقع أن افتقار الدول النامية إلى الفرص الحقيقية كي يكون لها تأثير حقيقي على عملية اتخاذ القرارات الكبيرة قد خفّض من مشاركتها في المنظمات الدولية القائمة إلى أن أصبح دورها معدوماً تقريباً، لهذا، ارتأت أن دورها في أية مظلة دولية أخرى سيكون أفضل من دورها تحت المظلة الغربية.
على هذا الأساس، يضع «بنك التنمية الجديد NDB» نهجاً بديلاً لتوزيع حصص التصويت في البلدان النامية: فاستراتيجية بريكس تفترض الشراكة على أساس المساواة، بغض النظر عن الإمكانات الاقتصادية للبلاد.
ظرف يتغيّر وغرب لم يعد قادر
على عكس بنك التنمية الذي أنشأته دول البريكس، لا تملك بنوك التنمية الدولية التقليدية القدرات اللازمة لتلبية الطلب المتزايد بسرعة على الاستثمار في مشاريع البنى التحتية، وخاصة من دول الجنوب العالمي، حيث يقدِّر الخبراء الطلب بما يتراوح بين 1 و2.3 تريليون دولار.
وكما أسلفنا، تم إنشاء الغالبية العظمى من البنوك الدولية في عصرٍ هيمنت فيه «الدول المتقدمة» في أوروبا والولايات المتحدة واليابان. وهو عصر يختلف اختلافاً جذرياً عن الموازين الدولية اليوم، حيث تصعد - بشكلٍ متوازن ومضبوط- حركة دولية مناهضة للهيمنة الغربية، ويجري ذلك في زمنٍ تضعف فيه قدرة مصارف التنمية الدولية على الاستجابة للاحتياجات المتزايدة لاقتصادات العالم النامي كل عام.
على العكس من ذلك، أكد «بنك التنمية الجديد NDB» فعاليته في مواجهة التحديات العالمية: فقد ضمنت الأنشطة التشغيلية للبنك لمكافحة جائحة فيروس كورونا هبوطاً ناعماً نسبياً لاقتصادات الدول الخمس الأعضاء في مجموعة بريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا)، حتى في أكثر مراحل انتشار وباء كوفيد ١٩ حدّة ووبالاً على اقتصادات العالم.
على هذا النحو، خصَّص البنك أكثر من 9 مليارات دولار لتمويل البرامج الحكومية للتعافي الاقتصادي، ما خفّف بشكل كبير من آثار الأزمة، وسهّل التكيّف مع الواقع الجديد بعد الجائحة. كما أثار تقديم البنك قروضاً لمكافحة الأزمات وحساب المخاطر المرتبطة بالوباء اهتمام الدول غير الأعضاء في مجموعة بريكس. وعلى وجه الخصوص، أصبحت الإمارات والأوروغواي وبنغلاديش ومصر أعضاء في البنك. ويؤكد هذا التوسع التزام استراتيجية «بنك التنمية الجديد NDB» باعتباره أداة إنمائية رائدة للاقتصادات الناشئة.
ومع استمرار الضغط من جانب المصالح الغربية في مؤسسات «بريتون وودز» المالية، وسط التوزيع الحالي لأصوات البلدان الأعضاء في هذه المنظمات، فإن النشاط الفعال لبنك التنمية الجديد يرجح كفة الميزان لصالح دعم الدول النامية، ويُظهر آفاقاً كبيرة للتحول إلى منصة كاملة لتوسيع التعاون الاقتصادي والمالي.
وفي شهر أيار الماضي 2022، اعتمد مجلس محافظي البنك استراتيجية إنمائية طموحة إلى حد ما للفترة 2022-2026، حيث يمكن اختزال الأولويات التي حددتها الاستراتيجية إلى خمس فئات رئيسية من أنشطة البنك.
أولاً: تطوير المدفوعات بالعملات الوطنية
تهدف المبادرة المعتمدة على التمويل بالعملات المحلية في المقام الأول إلى تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي وعملات التبادل الدولية الأخرى. وسيسهم تنسيق الجهود في هذا المجال في رفع الوزن العالمي للعملات الوطنية للدول الأعضاء في «بنك التنمية الجديد NDB»، وتجنب مخاطر العملة، وتسهيل التجارة المتبادلة بين دول مجموعة بريكس إلى حد كبير.
ثانياً: توسيع عضوية بنك التنمية الجديد
في عام 2021، فتح البنك أبوابه لأربع دول أعضاء جديدة، وسيتّبع استراتيجية مماثلة في المستقبل من أجل توسيع جغرافية مشاريع البنى التحتية التي يموّلها.
وبغية جعل تطوّر البنك أكثر حيوية، من الممكن إشراك الدول ذات التصنيفات الائتمانية العالية والاحتياطيات الكبيرة في أنشطته. وفي هذا الصدد، تتركز أنظار الدول الأعضاء في البنك بشكل خاص على جنوب شرق آسيا، ولا سيما إندونيسيا وتايلند، حيث إن توسيع التعاون معهما سيجعل المجموعة أكثر تمثيلاً.
كما أن دخول قادة إقليميين آخرين مفيد أيضاً لبنك التنمية الجديد: ففي أمريكا اللاتينية يوجد الآن مرشح واحد هو الأرجنتين، وفي منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا تبرز المملكة السعودية كدولة مرشحة بشكلٍ قوي.
ثالثاً: بنك التنمية يتجاوز التعاون الاقتصادي والمالي
في كل عام، يكتسب «بنك التنمية الجديد NDB» وزناً جيوسياسياً أعلى، ما يخلق بديلاً حقيقياً لتفوق الاقتصادات الغربية عالمياً. ومع نمو قدرة البنك، يزداد الشعور بالحاجة إلى توسيع نطاق أنشطته: فمن الناحية الاقتصادية، تحوّل الدول الأعضاء في البنك تركيزها نحو مناقشة جدول أعمال أوسع من المتعارف عليه.
ومن الأمثلة البارزة على مراجعة الأولويات في اتجاه الاستجابة للتحديات العالمية رغبة البنك في تمويل مشاريع في مجال الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وتغير المناخ، والرعاية الصحية. وقد دخل هذا الأخير بقوة في جدول الأعمال: فالأصوات الداعمة لإنشاء جمعية بريكس الطبية تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم.
ويُظهر المستوى العالي من الحيوية التي تتطور من خلالها المجموعة بوضوح قدرتها على توحيد جهود الدول الأعضاء، حيث أن توسيع نطاق أنشطة البنك سيعود بالنفع على الجميع.
رابعاً: رفع مستوى التنمية المستدامة والمشاريع الخضراء
على خلفية الأهمية المتزايدة لجدول الأعمال البيئي عالمياً، أصبحت المبادرات الخضراء لبنك التنمية الجديد أكثر وضوحاً، حيث يكتسب تمويل المشاريع الخضراء زخماً سريعاً: في عام 2016، وضع بنك التنمية الجديد أول إصدار له من «السندات الخضراء» في سوق التداول بين البنوك الصينية (سوق التداول بين البنوك interbank market هو شبكة تستخدمها المؤسسات المالية لتداول العملات المحلية والعملات الأخرى مباشرة فيما بينها)، وتجاوز المبلغ الإجمالي 3 مليارات يوان، وتم تخصيص الدخل من الإصدار لدعم المبادرات البيئية للدول الأعضاء في بريكس.
وبفضل هذه المبادرات، استمرت الحركة نحو تنفيذ أهداف التنمية المستدامة بشكل فعال: فقد قدم بنك التنمية الجديد قرضاً للصين لتمويل ثلاثة مشاريع تتعلق بالطاقة الخضراء، وأعلن مؤخراً عن دعمه لمبادرة بريكس التي تقدمت بها روسيا للأنهار النظيفة.
وفي المستقبل المنظور، من المتوقع توحيد الجهود الرامية إلى تعزيز المبادرات الخضراء للأعضاء الجدد في البنك. وهكذا، أعلنت الإمارات التزامها بجدول أعمال التنمية المستدامة وأولوية البيئة في إطار التعاون المتعدد الأطراف. وفي الاجتماعات المقبلة، قد يوافق بنك التنمية على تخصيص أموال لمشروع الهيدروجين الأخضر في أوروغواي، ما يؤكد أولوية البنك ضمن جدول الأعمال البيئي لسنوات عديدة قادمة.
خامساً: بناء الشراكات التجارية
من أجل تنفيذ المبادرات المذكورة أعلاه، من المرجح أن يلجأ «بنك التنمية الجديد NDB» إلى توسيع مشاركته بشكل أكثر نشاطاً مع القطاعات المختلفة في الدول المختلفة، حيث تم إجراء محاولات لتنسيق نشاط بنى الأعمال التابعة لمجموعة بريكس في عام 2019 خلال رئاسة البرازيل للمجموعة، والتي أعلن رئيسها آنذاك تعميق الشراكة التجارية من أجل التنمية العالمية.
وبعد ثلاث سنوات، في عام 2022، حصلت هذه المبادرات على موافقة البلدان المشاركة: في الاجتماع السنوي السابع لمجلس محافظي بنك التنمية الجديد، أشار وفد البرازيل إلى إمكانية تقارب البنى التجارية لأعضاء بريكس لتمويل مشاريع البنى التحتية. وبالفعل، فإن بنك التنمية الجديد لديه كل الشروط اللازمة لتكثيف هذا التعاون.
ولا يزال بنك التنمية الجديد في بداية رحلته الرامية إلى إيجاد بدائل مجدية لمؤسسات بريتون وودز. وفقاً للمحللين، بحلول عام 2026، سيوسع بنك التنمية الجديد مجموعته الإجمالية من القروض المعتمدة إلى 60 مليار دولار: تشير هذه التوقعات الطموحة بين الخبراء إلى أن البنك يسير على الطريق الصحيح. والغرض من هذا المسار هو المهمة العالمية لبنك للتنمية، أي زيادة ثقة العالم في مبادرات الدول الصاعدة في الاقتصاد العالمي، وإظهار حقيقة أن الأسواق الناشئة أصبحت قوة حقيقية لا يمكن لأحد أن يستهين بها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1087