أين أصبح أصحاب الأجور في دولة الرفاه الألمانية؟
بات تعبير «دولة الرفاه» في ألمانيا مدعاةً لتهكم عموم الطبقة العاملة الألمانية وأصحاب الأجور، على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المنهكة؛ فألمانيا التي عاش سكانها مجداً ورفاهاً في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، قد دخلت منذ الثمانينات طوراً جديداً مختلفاً تماماً.
تشعر بهذا الاختلاف بشكل خاصٍ، الأجيال الألمانية الأكبر سناً، ويمكنك أن تسمع منهم شكواهم بهذا الخصوص... هذا الاختلاف بطبيعة الحال ليس ملموساً بالقدر نفسه من وجهة نظر الوافدين الجدد، وخاصة من دول أطراف العالم الرأسمالي الذين وجدوا بلداً قادراً على تأمين الحد الأدنى من مستلزمات العيش التي لم يحصلوا عليها في بلدانهم... ولكن حتى هؤلاء الوافدين بدأوا بالشعور خلال السنتين الماضيتين بوطأة التغيرات.
أبناء الجيل الأكبر سناً من الألمان، ينظرون بحنين إلى حقبة كانوا ينفقون فيها ثلث دخولهم على الحاجات الأساسية، بينما يستخدمون الثلثين الباقيين في الادخار وفي الترفيه... وهو المستوى من المعيشة الذي لم تنعم به، ولم تعرفه حتى، الأجيال الأصغر سناً، بمن فيهم من يبلغون الآن الأربعينات أو حتى الخمسينات من عمرهم.
تشويش مُعتمد
السؤال الأساسي: كيف نقيس رفاه شعب ما في الرأسمالية نفسها؟
مؤشر السعادة الذي ابتكره معهد ليغاتوم هو المؤشر الرأسمالي الوحيد حالياً لقياس رضى الأفراد عن حياتهم.
مؤشر السعادة العالمي (بالإنجليزية: Happy Planet Index (HPI)) هو مؤشر يقيس مدى السعادة في الدول والمجتمعات استناداً إلى دراسات وإحصائيات متعددة. ويمكن قياس السعادة (ومن ثم مؤشر السعادة) بعدة أمور، منها: مدى شعور الأفراد بالسعادة والرضا عن حياتهم، والدول الأكثر سعادة غالباً ما تكون الدول الأكثر ثراء إلى مدى معين، إضافة إلى عوامل أخرى مساعدة، مثل: الدخل الإضافي والدعم الاجتماعي، وغياب الفساد ومستوى الحرية التي يتمتع بها الأفراد، ومتوسط عمر الفرد، ومعدل وفيات الأطفال...
رغم أهمية هذا المؤشر، لكنه بحكم أنه مؤشرٌ كمي، فإنه يقدم لنا أرقاماً وإحصائيات عامة لعلاقة الأفراد بالاستهلاك وبالحكومات، لكنه غير قادر على تفسير الأزمات المتلاحقة في المجتمعات الغربية، والميل العام لعدم الرضا في ألمانيا في الحالة التي ننظر فيها هنا؛ حيث ينشط اليمين المتطرف كتعبيرٍ مُشتقٍّ، وإنْ كان مشوهاً، ولكن كتعبير مُشتق في نهاية المطاف عن عدم الرضا الاجتماعي عن الأوضاع الاقتصادية، وبما أن المؤشر قاصر عن تقديم إجابات شاملة لوضع الطبقة العاملة الألمانية تاريخياً، نعود إلى التعريف الماركسي للاغتراب...
الاغتراب ماركسياً
«يصبح العامل أكثر فقراً كلما زادت الثروة التي ينتجها، وكلما زاد إنتاجه من حيث القوة والكم. يصبح العامل سلعة أرخص مما مضى كلما صنع المزيد من السلع. انخفاض قيمة العالم الإنساني يزداد في علاقة مباشرة مع زيادة قيمة عالم الأشياء. لا يخلق جهد العامل السلع فقط، ولكنه ينتج أيضاً نفسه، ويخلق العامل كبضاعة، وبنفس المعدل الذي يخلق به السلع». (مخطوطات ماركس، ص 13).
وإذاً، فإنّ السعادة تخضع لمنطق آخر؛ فهي تعبير عن علاقة الأفراد والمجتمعات عملياً بالملكية؛ بملكيتهم للبضائع التي يصنعونها ولا يستطيعون تملكها، بملكيتهم الشكلية لقوة عملهم ولأجسادهم التي يفنونها في العمل ويعجزون عن تعويض «اهتلاكها» المادي والروحي، بغربتهم عمّا ينتجون، وبتحول منتجاتهم إلى أعداء لهم...
مؤشر حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي خلال 70 عاماً
إن كل ناتجٍ لبلد ما، يتكون عضوياً من الأجور والأرباح. والعلاقة بين الأجور والأرباح، أي بين حصة العمال وحصة البرجوازية من كامل الإنتاج الذي تصنعه الطبقة العاملة، هو أحد أهم مقاييس السعادة، وهو مقياس كمي ونوعي في آن معاً، وفقاً للفهم الماركسي لموضوعة الاغتراب الإنساني. ويقيس هذا المؤشر مدى حصول الطبقة العمالة على حصتها من الإنتاج، وتالياً قدرتها على الاستهلاك والادّخار والرفاه، وقدرتها على تجديد نفسها مادياً وروحياً، وعلاقتها بالعالم المادي الذي تخلقه من حولها، وعلاقتها ببعضها البعض وبالمجتمع ككل، وبالحياة نفسها...
فكيف تطورت صيغة التوزيع في ألمانيا خلال السبعين عاماً الماضية؟
تعويض الفاقد
لتعويض الفاقد الناجم عن انخفاض الأجور، تلجأ الأسر والأفراد للاقتراض، يساعدهم في ذلك انخفاض أسعار الفائدة. ولأن العملية الاقتصادية لها جانبان، العرض والطلب، فإن أي انخفاض بالطلب سيؤدي إلى انخفاض بالعرض، وهبوطٍ لنسب الأرباح، وهبوط للأرباح بشكل مطلق، وهذا تناقض رئيسي في الرأسمالية فهي تسعى للربح المطلق ولأعلى نسب ربح ممكنة، لكنها في الوقت ذاته، وفي سبيلها لرفع معدلات ربحها، تضغط على الأجور فتخفّضها، فينخفض معدل استهلاكها، فيجري التعويض بخفض معدلات الفائدة لإرغام الناس على الاقتراض للحفاظ على مستوى معيشيٍ معين.
في الجدول التالي نبين العلاقة بين نسبة الأجور للناتج وتطور اقتراض الأفراد والأسر في ألمانيا بين العام 1991 و2021.
يبين الجدول بوضوح عملية ترميم الفاقد من الأجر من خلال زيادة معدل الاقتراض؛ ففي العام 1991 كانت الديون تشكل حوالي 60% من إجمالي الأجور، و26.7% مقارنة بحجم الناتج، وارتفعت خلال ثلاثين عاماً بشكلٍ جنوني لتصبح عند 91% من إجمالي الأجور، و40% مقارنة بحجم الناتج..
وينبغي الانتباه في هذه المقارنة إلى أنّ حصة الأجور من الناتج لم تتغير بقدر كبيرٍ جداً بين عامي 1991 و2021، (من 44% إلى 42%)، ومع ذلك فإنّ القدرة الفعلية لهذه الأجور على تأمين مستويات معيشة معينة قد انخفضت بشكل كبير، وهو ما يعبر عنه ارتفاع اقتراض الأفراد من 26.7% من حجم الناتج إلى 40% منه... ناهيك عن أنّ كل محاولات تعويض الفاقد لا تصل فعلياً- حتى مع القروض- إلى عودة بالمستوى المعيشي لما كان عليه بين أواسط الخمسينات ونهاية السبعينات، وخاصة بما يتعلق بالقدرة على الادخار...
ما يعني ضمناً، أنّ حجم التضخم المخفي غير الرسمي هو أكبر بما لا يقاس من الأحجام المعلنة، وما يعني أيضاً، أنّ مجمل الحسابات القومية الرسمية، يكتنفها قدر كبير من التشويه المتعمد.
إن عدم الاستقرار والميل الشديد للتمركز، هي صفات عضوية في الرأسمالية، مشتقة من القوانين الموضوعية لنشوء وتطور رأس المال. والفترة الخاصة التي مرت بها دول الرفاه الأوروبي لا يمكن وصفها إلّا على أنها قانون يخضع لجملة متنوعة من المتغيرات حصلت لمرة واحدةٍ ولن تتكرر، لأن وضع نشاط الجماهير العالي ووجود الاتحاد السوفييتي في حينه، ونضال الطبقة العاملة الغربية، كانت كلها تشكل رعباً للبرجوازية الغربية التي اضطرت تحت جملة العوامل السابقة لتقديم هذه التنازلات بيد، وقامت مع تراجع الحركة الثورية والاتحاد السوفييتي بسحبها باليد الأخرى، حتى وصلنا إلى المكان الذي تسعى فيه الطبقة العاملة الألمانية اليوم لتحصيل قُوت كفاف يومها، في وقت ما عاد النضال البرلماني ولا الإضرابات العمالية كافية لوقف السيل الهائل من عملية انتزاع المكتسبات... ما يضع أوروبا بأسرها، وألمانيا ضمناً، على مفترق طرق؛ فإما الانحدار إلى ما لا نهاية، أو الثورة، التي بات واحداً من شروطها الأساسية تحرر أوروبا من التبعية لرأس المال المالي العالمي بمركزه الأمريكي، والذي يسوق الشعوب الأوروبية اليوم نحو مصير أسود، عبر استخدامها وقوداً في محرقة كبرى على أمل استمرار الهيمنة والنهب...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1083