الديناميكية الطبقية لإشعال الركود في الغرب
أعلنت وزارة التجارة الأمريكية عن تقلّص الاقتصاد الأمريكي لربعين متتالين، وأنّ ذلك يعني الدخول في «ركود تقني». تَصاحبَ الانكماش الاقتصادي مع سلسلة من عمليات تسريح العمال التي تهدد بخلق سيل يبطئ الاقتصاد أكثر. الشهر الماضي تمّ تسريح أكثر من 30 ألف عامل في قطّاع التكنولوجيا وحدها، وكذلك 8 آلاف عامل من شركة فورد، ما يبشر «بحمام دم» أكبر في مجال صناعة السيارات.
ترجمة: قاسيون
لكن في دوامة البيانات الاقتصادية، من الضروري دوماً فَهم أنّ هذه الأرقام هي تعبيرات مجردة عن القوى الاجتماعية والطبقية المتضمنة، وبأنّ الاقتصاد ليس شيئاً يشبه «آلة»، بل هو شيء يستند إلى تعريفات للعلاقات الاجتماعية الطبقية ويعمل ضمنها.
نشب الخلاف اليوم في دوائر الإعلام والمعلقين الماليين حول ما إذا كان هذا «الركود التقني» هو ركود حقيقي أم لا. لكنّ القضيّة الرئيسية هنا ليست قضيّة تعريفات، بل قضيّة تحديد المصالح الطبقية التي تحكم عمل الاحتياطي الفدرالي: المؤسسة المالية الرئيسية للدولة الرأسمالية.
تُصاغ سياسات الاحتياطي الفدرالي دوماً بأشكال مختلفة عن المصطلحات التي تغطي الأجندة الحقيقية، من خلال سلسلة غامضة تهدف إلى إظهار أنّ البنك المركزي يقف بطريقة ما فوق المصالح الطبقية، محاولاً تنظيم الحياة الاقتصادية لصالح جميع الناس.
بعيداً عن سيل الكلمات والمصطلحات، فإنّ جوهر الوضع الحالي هو التالي: شرع البنك المركزي– حارس مصالح الشركات ورأس المال المالي– في هندسة تباطؤ شديد، وإن لزم الأمر انكماش اقتصادي كبير. الهدف هو قمع مطالب الأجور للطبقة العاملة في ظلّ ظروف ارتفع فيها التضخم إلى أعلى مستوى له منذ أربعة عقود.
يتمّ شنّ هذا الاعتداء من خلال آلية رفع أسعار الفائدة، والتي يتمّ رفعها بأسرع معدل منذ عقود تحت راية مكافحة التضخم. لكن زيادات معدلات الفائدة لن تؤدي إلى انخفاض أسعار الوقود أو فك سلاسل التوريد. الهدف هو إحداث انكماش اقتصادي بحيث يتمّ قمع مطالبات الأجور.
تكرر أجندة سياسة الفيدرالي الحالية جدول أعمال رئيسه في الثمانينات بول فولكر، عندما تمّ رفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية، ما أدّى إلى حدوث أعمق ركود حتّى تلك النقطة منذ الكساد الكبير. أعرب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي اليوم جيروم باول عن إعجابه بفولكر في مناسبات عديدة، موضحاً أنّه أكثر من مستعد لاتباع المسار ذاته.
أصرّ وزير الخزانة الأمريكية السابق لورانس سمرز، على أنّ احتواء التضخم يعني زيادة مستويات البطالة لمدّة خمسة أعوام أو معدل 10٪ من البطالة لعام واحد على الأقل.
كما هو الحال مع كلّ قضيّة اقتصادية وإحصائيّة أخرى، فالتضخّم جزء لا يتجزأ من البنية الطبقية للمجتمع، حيث يكشف الفحص التاريخي عن أصول النظام الأمريكي والعالمي الحالي.
المهم إنقاذ رأس المال المالي
أدّت الأزمة المالية العالمية لعام 2008– التي اندلعت بسبب المضاربات المالية المتزايدة التي سبقتها لأكثر من عامين– إلى أكبر عملية إنقاذ مالي وشركاتي في التاريخ. وزعت الحكومة الأمريكية مئات ملايين المليارات من الدولارات على شكل حزم إنقاذ، وبدأ الاحتياطي الفيدرالي سياسة «التسهيل الكمي»: ضخّ الأموال في النظام المالي حتّى تستمرّ المضاربات في وول ستريت بشكل أظهر أنّ الأزمة مستمرة.
استمرّت الحال هكذا. بعد الوصول إلى الحضيض في آذار 2019، سار سوق الأسهم في مسار تصاعدي مذهل، لكنّ ذلك كان قائماً على إمدادات المال زهيدة الثمن من الاحتياطي الفيدرالي.
في آذار 2020 عندما ضربت أزمة كوفيد-19، دخلت وول ستريت والأسواق المالية في حالة من الهلع، خوفاً من أن يؤثر فرض تدابير السلامة الصحية العامة الضرورية على تدفق الأرباح المستخرجة من الطبقة العاملة، ما يعني انهيار فقاعة سوق الأسهم.
نتجت عن ذلك سياستان رئيسيتان: تحت شعار «العلاج لا يمكن أن يكون أسوأ من المرض» تمّ رفض تطبيق السياسة الضرورية للتخلص من كوفيد-19 في جميع الحكومات الرأسمالية الكبرى حول العالم. في الوقت ذاته تمّ ضخ تريليونات أخرى من الدولارات في النظام المالي. في الولايات المتحدة، بين عشية وضحاها ضاعف الاحتياطي الفيدرالي حيازته من الأصول المالية من 4 ترليون دولار إلى 8 ترليون دولار تقريباً، ليصل إنفاقه في نقطة ما إلى مليون دولار في الثانية.
هذا هو أصل التضخم العالمي الذي نشهده اليوم. رفض اتباع سياسة عالمية للقضاء على كوفيد-19 بسبب تأثيره المحتمل على أسواق الأسهم، مما أدّى إلى العواقب الكبرى التي نشهدها على الاقتصاد الحقيقي. تمّ توسيع النظام النقدي من قبل البنوك المركزية، مما أدّى إلى استمرار المضاربة على الأصول في عامي 2020 و2021.
العامل الآخر، هو الزيادة التي لا نهاية لها في الإنفاق العسكري، حيث يتمّ ضخّ مليارات الدولارات في الحرب بالوكالة ضدّ روسيا في أوكرانيا.
أثناء سعيهم لزيادة معدلات الفائدة، يشير رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم بأول- مع بقية رؤساء البنوك المركزية الكبرى- بشكل مستمر إلى ما يسمونه سوق «العمالة الضيقة»، حيث يجب موازنة الطلب مع العرض.
بطالة بالإكراه
في ظل الظروف المأساوية التي تسبب فيها انتشار كوفيد-19، أدّت الإصابات المستمرة والتأثير المتزايد لفيروس كورونا إلى انسحاب الملايين من القوى العاملة، الطريقة الوحيدة لرفع المعروض من العمالة فوق الطلب عليها من خلال فرض البطالة.
هذه العملية جارية بالفعل نتيجة لرفع أسعار الفائدة الذي بدأه بنك الاحتياطي الفيدرالي. أشارت صناعة السيارات إلى أنّ عمليات التوظيف الجديدة متوقفة، ومن المقرر تسريح المزيد من العمال في وقت لاحق. في قطاع التكنولوجيا الفائقة شديد الحساسية لرفع سعر الفائدة، بدأنا نشهد تسريحاً بأعداد قياسية بالفعل.
من الضروري أن يفهم العمّال أثناء دخولهم الصراع- من أجل مواجهة التخفيضات اليومية في مستوى معيشتهم الناجمة عن أعلى معدلات تضخم منذ أكثر من أربعة عقود- ما هو على المحك. فالعمال اليوم في صراع مزدوج مع أرباب العمل من جهة، ومع البيروقراطية النقابية بوصفها منفذاً رئيسياً لمطالب الدولة الرأسمالية ووكالاتها.
الكفاح من أجل الأجور هو أمر ضروري، كما أنّه نضال ضدّ آثار أعمق بكثير، فالمراجعة التاريخية تظهر لنا أنّ كلّ إجراء اتخذته الطبقة الحاكمة من أجل مواجهة الأزمات، أدّت إلى اندلاعها بشكل جديد أكثر خبثاً. الدوامة التضخمية التي نشهدها اليوم نجمت عن حلول أزمة 2008، والحلول التي يحاول رأس المال المالي اليوم تطبيقها تهدف لتحميل الطبقة العاملة ثمن الأزمة الحالية، ولو وصل الأمر إلى خلق بطالة جماعية.
الحلّ بالنسبة للعمّال، هو تطوير استراتيجية تتعامل مع الأسباب الأساسية للأزمة، ما يعني النضال من أجل منظور اشتراكي مستقل موجه لإنهاء نظام الربح، وبذلك الوصول إلى شكل أعلى من التنظيم الاقتصادي والاجتماعي.
بتصرّف عن:
The class dynamics of the Fed’s recession program
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1082