«الدعم النقدي»: شيفرة تعني إلغاء الدعم عن السوريين
لا ينفك القابضون على زمام القرار في البلاد يوجهون ضربات متلاحقة لما تبقى من منظومة «دعمٍ اجتماعي» تحت حجج وشعارات مختلفة ترمي فعلياً إلى الإلغاء التدريجي والمتسارع لهذا الدعم، على نحوٍ يهدّد بدفعِ ملايين جدد من المواطنين السوريين إلى براثن الجوع والفاقة وركوب البحر هرباً من جحيم البلاد.
رغم كل التأكيدات الإعلامية الحكومية المتواصلة عن أنه «ليس هنالك رفع تدريجي أو رفع فجائي للدعم»، فإن ما كان في السابق بحكم التخمينات والتكهنات تحوّل إلى تصريحات رسمية عبّرت عنها وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حديثٍ إذاعي خلال الأسبوع الماضي، مؤكدة أنها «تدرس» ما أطلقت عليه «مشروع الاستعاضة عن الدعم من خلال البطاقة الذكية بمبلغٍ محدد»، وأن هذا «المشروع» هو حالياً ضمن مرحلة النقاش مع الفريق الاقتصادي ومجلس الوزراء.
وكانت رئاسة مجلس الوزراء قد وضعت الأساس لهذا الحديث في منتصف شهر كانون الثاني من هذا العام، معلنةً سعيها لـ»إعادة هيكلة الدعم من خلال تحويله إلى صيغة دعم نقدي يخصَّص إلى المستحقين بشكل مباشر»، مبررة ذلك بحجة «تقليل مساحات الفساد المحتملة من خلال تقليل الأرباح التي يمكن أن يحصل عليها الانتهازيون».
لماذا يوجد الدعم الحكومي؟
كما ذكرنا في العديد من المناسبات سابقاً، فإن الدعم يعبّر أولاً عن اختلالٍ في العلاقة بين الأجور التي يتقاضاها الناس ووسطي تكاليف معيشتهم الضرورية لإعادة تجديد قوة عملهم، إذ أن فكرة الدعم أساساً ناتجة عن اعتراف ضمني من جهاز الدولة بأن الأجور التي يدفعها للعاملين لا يمكنها أن تغطي تكاليف المعيشة الضرورية، وبالتالي، تتدخل الدولة في محاولة منها لسدِّ الفجوة أو جزء منها على الأقل.
ويعتبر الدعم أيضاً مؤشراً على اختلالٍ في توزيع الناتج الوطني بين الأرباح والأجور، بحيث تميل كفّة الميزان في سورية بشكلٍ حاسم واستثنائي إلى أصحاب الربح (في عام 2016 على سبيل المثال، كان الناتج الوطني موزعاً بين 89% لأصحاب الأرباح و11% فقط لأصحاب الأجور، وهي فجوة لا بدّ أنها اتسعت بشكلٍ أكبر خلال السنوات اللاحقة التي اشتدّ فيها النهب وتآكل الأجور).
من دعم استهلاكي إلى «دعم» نقدي
الدعم القائم في سورية بشقه الأكبر نظرياً هو دعم استهلاكي، أي أن الحكومة تخصِّص جزءاً من موازنتها المالية السنوية لتخفيض أسعار سلع وخدمات بعينها. وتبيّن حسابات الأعوام الماضية كيف كان هذا الدعم يتآكل سنوياً، حيث هبطت الأرقام التقديرية لفاتورة الدعم (أي الأرقام التي تعلن الحكومة أنها ستنفقها، دون أن تنفقها فعلياً بالضرورة) من حوالي 5.5 مليار دولار في عام 2012 إلى ما يقارب 1.5 مليار دولار في 2022.
وفي سلسلة تآكل الدعم، والتي كانت آخر حلقاتها رفع الدعم عن حوالي 3 ملايين مواطن سوري في بداية العام الجاري، فإن الحديث اليوم عن استبدال هذا الدعم بدعمٍ نقدي، يعني اتجاه الحكومة نحو تحرير أسعار السلع في البلاد (أي مضاعفة أسعارها مرّات عدّة في مقابل مبلغٍ مالي تتم إضافته كـ«تعويض» للأجر).
لا يحتاج المرء إلى كثير من الفطنة لإدراك ما يعنيه ذلك. حيث أن تحرير الأسعار دون تحرير الأجور (أي ضمان أن تكون الأجور قادرة على تغطية تكاليف المعيشة) ودون ربط الأجور بالأسعار المتغيرّة في السوق (أي أن يكون هنالك مؤشر متغير شهري أو فصلي... يضمن التوازن بين الأجور وتكاليف المعيشة بشكلٍ مستمر)، دون هذين الشرطين فإن لا تفسير آخر لـ«مشروع» تحويل الدعم إلى دعم نقدي سوى أنه خطوة شاسعة وكبيرة نحو رفع الدعم تماماً، ولا سيما أنه ووفقاً لتجارب دول أخرى، فإن هذه الخطوة كانت الخطوة الأخيرة التي تسبق رفع الدعم تماماً.
التضخم وتلاشي الدعم
على الأغلب، لن يأتي يوم يتم فيه إعلان إلغاء الدعم رسمياً، فهذا الإعلان لا ضرورة له بالنسبة للناهبين إن كان بالإمكان إلغاء الدعم فعلياً، حيث أن خطوة تحويل الدعم إلى دعم نقدي ستمكِّن الحكومة أن توقفه بسهولة متى أرادت ذلك، بل والأهم من ذلك أن قيمة مبلغ الدعم النقدي بحدّ ذاتها ستتلاشى بسرعة عندما لن تستطيع مواكبة التضخم الذي سيتسارع بالتوازي مع تحرير أسعار السلع.
وهنا نعود إلى الفكرة الأساسية من موضوع رفع الدعم لنتساءل: ما الذي يعنيه أن يبقى الخلل بين الأجور وتكاليف المعيشة قائماً ويتم رفع الدعم؟ ما الذي يعنيه ذلك سوى تخفيض قيمة الأجور الحقيقية للسوريين، بما يحمله ذلك من مخاطر اجتماعية إضافية تثخن في جراح من بقي في البلاد؟ ومن أجل ماذا؟ تأمين وفورات في خزينة الدولة؟
الموارد وحرمة جيوب الكبار
لم يكد يخلو تصريح حكومي من تكرار اللازمة التي تقول إن رفع الدعم (تحت مسميات عقلنته أو إعادة هيكلته... إلخ) هي خطوة تهدف إلى تأمين موارد إضافية في خزينة الدولة، والتذكير كذلك بارتفاع فاتورة الدعم بشكلٍ يزيد من عجز الموازنة العامة.
وفي هذا السياق، لا بد لنا من إعادة طرح السؤال: على عاتق من تقع مسؤولية وجود عجز في الموازنة العامة للدولة؟ هل يتحمل المواطنون ذلك أم السياسات الحكومية التي لم تعدم وسيلة كي تبدِّد مصادر إيراد الدولة بكل الطرق الممكنة؟ وقامت - فوق ذلك- بتصفية مختلف قطاعات الإنتاج الوطني من صناعة وزراعة وسياحة، ودفعت العملة الوطنية دفعاً نحو الانهيار المتسارع جرّاء السياسات التي لم تأخذ في الاعتبار يوماً سوى مصلحة كبار الناهبين في البلاد الذين يجب أن تكون جيوبهم هي مصادر الإيراد الإضافي للدولة لا جيوب المواطنين الذين يقاتلون بالكاد لتأمين أدنى ضرورات بقائهم على قيد الحياة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1068