تصنيع الركود
هيرمان شوارتز هيرمان شوارتز

تصنيع الركود

5,3 ترليون دولار من حزم الدعم الحكومي الأمريكي لتعيد الاقتصاد إلى مسار ما قبل وباء كوفيد. لكنّ مسار النمو ليس بتلك القوة، سواء قبل أو بعد الأزمة المالية 2008، كما أنّ التدهور البطيء لمعدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي ليس حكراً على أمريكا، فالاقتصادات السبعة الغنية– مجموعة السبع المكونة من الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، وكندا– شهدت انزلاقاً بنمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأكثر من النصف منذ الثمانينيات وحتّى العقد الماضي.

ترجمة: قاسيون


كان الاقتصاديون يسمون هذا التباطؤ «ركوداً مزمناً Secular stagnation»، وكان الكساد الكبير في الثلاثينيات هو من حفّز النقاشات الأولى حول الركود المزمن، أبرزها بين كينز وشومبيتر عن السبب الذي يدفع الشركات للاحتكار والتوقف عن الاستثمار فيما يضمن الهروب من النمو. لكنّ ثورشتاين فبلن كان قد حسم هذه النقاشات منذ بداية القرن الماضي، عندما قال بأنّ الشركات تسعى للاحتكار لأنّها تريد إيقاف المنافسة، وجني أرباح أكبر وأسهل. كان ما لاحظه فبلن هو بداية الشكل «الفوردي» للتنظيم الصناعي: اقتصاد مؤلف من مستويين: احتكارات ذات ربحية عالية يمكنها خنق الإنتاج لرفع الأسعار، وشركات أخرى بالكاد تدر أرباحاً وليس لها مثل تلك القدرات.
لكنّ هذا التفسير لا يكفي لفهم الركود المعاصر، حيث يتمّ إلقاء اللوم على القطاع المالي فقط بسبب استنزافه أموال الاستثمار من الشركات غير المالية. لكن نادراً ما يتم انتقاد مجموعة صغيرة من الشركات التي تملك احتكارات استمدتها من خلال السيطرة على حقوق الملكية الفكرية: براءات الاختراع وحقوق النسخ والتوزيع، والعلامات التجارية، والماركات. يلقي شرح فابلين- لكيفية تنظيم الإنتاج والإدارة لإدراك غاية الاستيلاء على الأرباح- الضوء على كيفيّة تحوّل توزيع الأرباح ناحية الشركات الثرية بالملكية الفكرية، التي تميل ليكون لديها هامش منخفض للاستثمار، ممّا يعيق النمو.


حقبة الامتيازات التجارية

أُشيرَ لهذه المرحلة باسم حقبة الامتيازات التجارية. تتمثل سماتها الأكثر تميزاً في تركيز الأرباح لدى الشركات الثريّة بالملكية الفكرية ذات العمالة الصغيرة، والميل الهامشي للاستثمار، والتهرّب الضريبي السهل نسبياً. أدّت هذه السمات إلى تباطؤ النمو في الاستهلاك والاستثمار والإنفاق الحكومي، وهي المقاييس التقليدية للناتج المحلي الإجمالي لدى الدول السبع الكبرى. الشركات التي تملك احتكارات للملكية الفكرية ليست بحاجة للاستثمار كي توسّع إنتاجها، أو الحفاظ على هيمنتها السوقية، فهي قادرة على توظيف الملكية الفكرية لمنع أيّ منافس من الدخول عبر دعوى قضائية، وهي قادرة على إعاقة الإنفاق الحكومي بتوطين مركز ملكيتها في مكانٍ تكون فيه الضريبة خفيفة أو معدومة.
في المرحلة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية والثمانينيات، حازت الشركات على الأرباح الاحتكارية باستخدام هياكل إنتاج متكاملة، بحيث تسيطر على أصول رأسمالية محسوسة: الآلات التي لا يمكن إعادة استخدامها بسهولة، أو بشكل مربح لاستخدامات أخرى. وكانت تكلفة إعادة إنتاج هذه الآلات كافية لردع المنافسين، حيث بإمكان المحتكرين زيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار بسهولة تترك المنافسين المحتملين مثقلين بآلات باهظة الثمن وأرباح محدودة.
أدّت عوامل متنوعة، مثل: تعاظم دور النقابات، ثمّ رفض الفئات المهمشة- مثل: السود واللاتين والنساء- لوضعهم والانقلاب عليه، إلى انقلاب الرأسماليين الكبار على شكل الإنتاج الفوردي الذي سمح للعمّال بالضغط عليهم، عبر نقل الإنتاج إلى الخارج وتشتيته جغرافياً. يتمّ بذلك نقل المخاطر إلى كاهل آخرين، مثل: أصحاب الائتمان والعمّال والشركات الأخرى، بينما تبقى السيطرة عبر حيازة الملكية الفكرية للشركات الاحتكارية.
استبدلت الشركات الاحتكارية الإستراتيجية الفوردية القديمة المولدة لمستويين، باستراتيجية الامتياز التي تولّد ثلاثة مستويات: 1) شركات رأس المال مكثّف، بعدد موظفين منخفض تستمد ربحيتها من امتلاكها لحقوق الملكية الفكرية. 2) شركات رأس المال المحسوس المكثّف التي تستمد ربحيتها المتوسطة من الحواجز التي تمنع الاستثمارات القوية من الدخول، أو من معرفتها الضمنية بالإنتاج. 3) الشركات كثيفة العمالة ذات عدد الموظفين المرتفع، والتي تستمد ربحيتها من إنتاجها خدمات وسلع غير متمايزة بأرباح منخفضة. ورغم أنّ بعض الشركات تمزج بين خصائص كلّ مستوى، مثل: ماكدونالدز التي تمزج بين امتلاك العلامات التجارية والعقارات، فلا يغير ذلك في التوصيف.
يتوضح الأمر بالنظر إلى أنّه بين عامي 1961 و1965، كانت 64 شركة أمريكية من حيث الربح هي الأكبر في العالم، وكذلك من حيث عدد العمّال فيها، وذلك بنسبة 41,1% من الأرباح العالمية، وبنسبة 38% من العمالة العالمية. بينما بين عامي 2013 و2017 فقط 32 شركة من أكبر الشركات الأمريكية تستحوذ على ربح 32,6% من الأرباح العالمية، وتوظّف 27,6% من العمالة العالمية.


التأثير على الاستثمار

يقوم هيكل الامتياز أيضاً بتوجيه الأرباح إلى الشركات ذات الميل الهامشي المنخفض للاستثمار. رغم أنّ المئة الأكبر المسجلة في الولايات المتحدة قد استحوذت على 45% من الأرباح في الفترة 1950 و1980، وعلى 44% في الفترة بين 1992 و2017، فالقطاعات التي تراكمت فيها هذه الأرباح قد تغيرت بشكل جذري. حلّت قطاعات التكنولوجيا والأدوية الحيوية والتمويل، محل قطّاع الاتصالات والصناعات المرتبطة بالنفط والتصنيع، بوصفها القطاعات الأكثر استحواذاً على الربح. لن يكون هذا في حدّ ذاته مشكلة لو أنّهم يستثمرون بالسوية ذاتها، ولكنّهم لا يفعلون.
الشركات الثريّة بالملكية الفكرية لا تواجه حاجة ولا ضغطاً للاستثمار في القدرات الإنتاجية الجديدة. ليس هناك ضغط تنافسي، وليس تطوير البرمجيات ولا إدارة العلامات التجارية بحاجة للاستثمار في رأس المال الحسي حتى يوسعوا الإنتاج. كانت معظم أسواق البلدان المتقدمة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تنمو بمعدل 1% سنوياً، وحتّى القطاعات الديناميكية السابقة، مثل: الهواتف الخلوية، فقد تباطأ نموها بشكل ملحوظ بعد 2016.
بالمقارنة بين عامي1961 و1965 في ذروة الهيكل الفوردي، وعامي 2014 و2018 ذروة هيكل الامتياز، من ناحية إنفاق أكبر 100 شركة استحواذاً على الأرباح، على توسيع رأس المال: في الهيكل الفوردي كان الإنفاق 20,3% من الأرباح وهو رقم قليل، بينما في هيكل الامتياز الإنفاق 13.1% من الأرباح وهو أقلّ.
إدراك تأثير التحوّل إلى هيكل الامتياز يُكمّل فهم الأمر الأضيق: التحوّل إلى الأَمْوَلة. يعود ذلك لعدد من الأسباب، من أهمها: تزامن تركّز الربح في أيدي المؤسسات التمويلية مع حصول الشركات الثريّة بالملكية الفكرية على حصة أكبر من الأرباح في العقود الثلاثة الماضية. كما أنّ التمويل والتكنولوجيا تقسّم الإنتاج إلى المستويات الثلاثة ذاتها، حيث تتركز الأرباح في قمّة الهرم.
أدّى هذا إلى التزاوج بشكل متزايد بين القطاع المالي والشركات الغنية بالملكية الفكرية. يبدو هذا بشكل أوضح بعد قرار المحكمة الفدرالية الأمريكية عام 1998 التي سمحت بتسجيل براءات اختراع لخوارزميات الأعمال والرياضيات. ففي 2014 كمثال، سجّل بنك أمريكا في 2014 عدد براءات اختراع ناجحة قريب من التي سجلتها شركات نوفارتيس للصناعات الدوائية، أو معهد ماسوشتس للتقانة، وبنك جي.بي مورغان من شركات سيمنز للتكنولوجيا، وجيننتك للصناعات الدوائية.

بتصرّف عن: Manufacturing Stagnation

معلومات إضافية

العدد رقم:
1044
آخر تعديل على الخميس, 18 تشرين2/نوفمبر 2021 15:19