العملات المشفرة: هل هي خارج سيطرة الراسمالية؟ لماذا نشأت؟ وما هو مستقبلها؟
في عالم الفانتازيا الحالي للاستثمار المالي في نادي القمار العالمي، تبدو عملة البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى أكثر جاذبية من الذهب بالنسبة للمضاربين بالعملات. وهكذا يستمر ازدهار العملات المشفرة. على سبيل المثال، قدرت قيمة Coinbase Global Inc وهي أكبر بورصة عملات مشفرة في الولايات المتحدة، بحوالي 68 مليار دولار، في نيسان 2021 مقارنة بـ 8 مليارات دولار فقط في أكتوبر 2018. تمتلك الشركة الآن أكثر من 43 مليون مستخدم في أكثر من 100 دولة. في الملدة التالية نورد أبرز ما كتبه الباحث والاقتصادي الماركسي مايكل روبرتس عن العملات المشفرة، نشأتها، وموجز لمبدأ عملها، وفرضيات حول مستقبلها.
ترجمة وإعداد: قاسيون
تذكير بأبرز وظائف النقد الرأسمالي
لم يعد النقد في الرأسمالية الحديثة مجرد بضاعة مثل الذهب، بل أصبح بدلاً من ذلك «عملة ورقية»، إما في شكل عملات معدنية أو أوراق نقدية، أو الآن في الغالب بشكل ائتمانات (تسليف) في البنوك. يتم قبول مثل هذه العملات الورقية لأنها مطبوعة ومدعومة من قبل الحكومات والبنوك المركزية وتخضع للتنظيم. لم تعد الغالبية العظمى من النقود الورقية في شكل عملات معدنية أو أوراق نقدية ولكن بشكل ودائع أو استحقاقات في البنوك. في المملكة المتحدة عام 2017، مثلت الأوراق النقدية والعملات المعدنية 2,1٪ فقط من إجمالي المعروض النقدي البالغ 2,2 تريليون جنيه إسترليني.
لأي حاجة نشأت العملات المشفرة؟
كان الدافع وراء عملات البيتكوين وغيرها من العملات المشفرة المنافسة هو الإنترنت ونمو التجارة والمعاملات القائمة على الإنترنت. لقد أوجد الإنترنت مطلباً لمعاملات منخفضة التكلفة ومجهولة الهوية ويمكن التحقق منها بسرعة لاستخدامها في المقايضة عبر الإنترنت.
تهدف العملات المشفرة إلى القضاء على الحاجة إلى الوسطاء الماليين من خلال تقديم مدفوعات مباشرة عبر الإنترنت من نظير إلى نظير (P2P). كان الابتكار التكنولوجي الرئيسي وراء العملات المشفرة هو blockchain، الذي هو بمثابة «دفتر الأستاذ» الذي يحتوي على جميع المعاملات لكل وحدة عملة واحدة. وهي تختلف عن دفاتر الأستاذ الحالية (المادية أو الرقمية) من حيث أنها لامركزية، أي لا توجد سلطة مركزية تتحقق من صحة المعاملات. بدلاً من ذلك، يستخدم التحقق بناءً على إثبات التشفير، حيث يتحقق أعضاء مختلفون من الشبكة من «كتل» من المعاملات كل 10 دقائق تقريباً. الحافز لذلك هو تعويض في شكل عملة مشفرة «تم سكها» حديثاً لأول عضو يقدم التحقق.
نشأة البيتكوين ومبدأ البلوكتشين
العملة المشفرة الأكثر شهرة هي عملة البيتكوين، ابتكرها ساتوشي ناكاموتو، وهو مبرمج مجهول وغامض عام 2008. لم يتم حصر Bitcoin بمنطقة أو بلد معين، كما أنها غير مخصصة للاستخدام في اقتصاد افتراضي معين. بسبب إنها بطبيعتها لامركزية، وتداولها بعيد إلى حد كبير عن نطاق التنظيم المباشر أو السياسة النقدية والرقابة التي كان يتم فرضها تقليدياً بطريقة ما على استخدام النقود الخاصة المحلية والأموال الإلكترونية.
الابتكار الرئيسي في blockchain هو سجل المعاملات العامة للنزاهة دون سلطة مركزية. توفر تقنية Blockchain للجميع الفرصة للمشاركة في عقود آمنة بمرور الوقت، ولكن دون القدرة على تجنب تسجيل ما تم الاتفاق عليه في ذلك الوقت. لذا فإن blockchain عبارة عن قاعدة بيانات معاملات تستند إلى «دفتر أستاذ» مشفر موزع مشترك بين الجميع في النظام. يتم منع الاحتيال من خلال التحقق من صحة الحظر. لا تتطلب blockchain سلطة مركزية أو أي طرف ثالث موثوق به لتنسيق التفاعلات أو التحقق من صحة المعاملات. تحتوي النسخة الكاملة من blockchain على كل معاملة تم تنفيذها على الإطلاق، مما يجعل المعلومات المتعلقة بالقيمة التي تنتمي إلى كل عنوان (حساب) نشط يمكن الوصول إليها في أي وقت في التاريخ.
يبدو هذا مثيراً بالنسبة لعشاق التكنولوجيا وأيضاً لأولئك الذين يرغبون في بناء عالم بعيداً عن سيطرة آلات الدولة والسلطات التنظيمية، والتقنية أثارت أفكاراً تقول بتمكين المجتمعات والأفراد لإجراء المعاملات دون إملاءات الحكومات الفاسدة والتحكم في دخولهم وثرواتهم بعيداً عن السلطات، والبعض فكر حتى بأنها قد تكون حتى جنيناً لعالم ما بعد الرأسمالية دون دول. ولكن هل هذه التكنولوجيا الجديدة من «سلاسل الكتل» والعملات المشفرة ستقدم حقاً عالماً مثالياً جديداً؟
مثل أي تقنية، إنها تعتمد على ما إذا كانت تقلل من وقت العمل وترفع من الإنتاجية والخدمات القيم الاستعمالية) أو، في ظل الرأسمالية، ما إذا كانت ستكون سلاحاً آخر لزيادة القيمة والقيمة الزائدة. هل تستطيع التكنولوجيا في حد ذاتها، حتى التكنولوجيا التي يبدو أنها خارج سيطرة أي شركة أو حكومة، حقاً أن تحرر الناس من قانون القيمة؟ لا أعتقد ذلك.
كبداية، يقتصر عمل البيتكوين على الأشخاص الذين لديهم اتصالات بالإنترنت. وهذا يعني استبعاد المليارات من هذه العملية، على الرغم من نمو الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول في قرى وبلدات «الاقتصادات الناشئة». حتى الآن (الكلام يعود للعام 2017) يكاد يكون من المستحيل شراء أي شيء باستخدام البيتكوين. على الصعيد العالمي، تبلغ معاملات البيتكوين حوالي ثلاثة في الثانية مقارنةً بائتمان Visa عند 9000 معاملة في الثانية. ولا يزال إنشاء «محفظة» لإجراء المعاملات بعملة البيتكوين على الإنترنت إجراءً صعباً.
بشكل أكثر حسماً، السؤال هو ما إذا كانت عملة البيتكوين تلبي بالفعل معايير النقد في الاقتصادات الحديثة. يخدم النقد ثلاث وظائف في ظل الرأسمالية، حيث يتم إنتاج الأشياء والخدمات كبضائع لبيعها في السوق. يجب قبول النقد كوسيلة للتبادل. ويجب أن تكون وحدة حساب تتمتع بدرجة معقولة من الاستقرار حتى نتمكن من مقارنة تكاليف السلع والخدمات بمرور الوقت وبين التجار. كما يجب أن يكون النقد مخزناً للقيمة يظل ثابتاً بشكل معقول بمرور الوقت. إذا بدأ التضخم المفرط أو الانكماش المتزايد، فسرعان ما تفقد العملة الوطنية دورها مع اختفاء «الثقة» في العملة. هناك العديد من الأمثلة في التاريخ على استبدال العملة الوطنية بعملة أخرى أو بالذهب (وحتى بالسجائر) عندما يتم فقدان «الثقة» باستقرارها.
يتم طرح مسألة الثقة مع Bitcoin لأنها تعتمد على «عمال المناجم»، أو الأعضاء الذين يساهمون في القدرة الحسابية لحل مشكلة تشفير معقدة والتحقق من المعاملات التي حدثت خلال فترة زمنية قصيرة (10 دقائق). يتم بعد ذلك نشر هذه المعاملات ككتلة، ويتلقى المُعدِّن الذي نشر الدليل لأول مرة مكافأة (كانت عام 2017 نحو 25 عملة بيتكوين). الحد الأقصى لحجم الكتلة هو 1 ميغا بايت، وهو ما يتوافق مع ما يقرب من سبع معاملات في الثانية. من أجل ضمان نشر الكتل كل 10 دقائق تقريباً، تقوم الشبكة تلقائياً بضبط صعوبة مشكلة التشفير المطلوب حلها.
يتطلب تعدين البيتكوين معدات متخصصة، بالإضافة إلى تكاليف كهرباء كبيرة وبالتالي يتعين على «عمال المناجم» أن يوازنوا بين استثماراتهم في التكنولوجيا والطاقة. وهذا يعني أن عملات البيتكوين بشكل متزايد لا يمكن أن تعمل إلا كعملة عالمية بديلة إذا أصبح عمال المناجم منخرطين بعمليات كبيرة. وهذا يعني أن الشركات الكبيرة على الطريق، تلك الموجودة في أيدي الكيانات الرأسمالية، قد تكون قادرة في النهاية على التحكم في سوق البيتكوين. وأيضاً إذا أصبحت عملة البيتكوين بمثابة مناقصة قابلة للتطبيق لدفع الضرائب للحكومة، فسوف تتطلب بعد ذلك شكلاً من أشكال العلاقة السعرية حالياً مع المعروض النقدي غير المدعوم ببضائع- أو ما يسمى fiat money ولذلك ستظل الحكومات لها دورها بهذا الأمر.
في الواقع، فإن العقبة الأكثر إثارة للدهشة أمام عملات البيتكوين أو أي عملة مشفرة أخرى هي استهلاك الطاقة الذي تنطوي عليه. يستهلك تعدين البيتكوين بالفعل طاقة للكمبيوتر أكثر من الاستهلاك السنوي لأيرلندا. ارتفعت درجات الحرارة بالقرب من مراكز تعدين الكمبيوتر. ربما يمكن استخدام هذه الحرارة بيئياً، لكن عدم الربحية لإعادة تدوير الطاقة هذه قد «يمنع» مثل هذا التوسع في blockchain.
هل العملات المشفرة خارج سيطرة الرأسمالية؟
الرأسمالية لا تتجاهل تقنية blockchain. في الواقع، مثل أي ابتكار آخر، تسعى الرأسمالية إلى إخضاعه لسيطرتها. توفر دفاتر الأستاذ الموزعة المتبادلة (MDLs) في تقنية blockchain سجلاً إلكترونياً للمعاملات العامة للنزاهة دون ملكية مركزية. توفر القدرة على الحصول على مصدر بيانات متاح عالمياً ويمكن التحقق منه ولا يمكن التلاعب به لأي شخص يرغب في أن يقدم لخدمات طرف ثالث موثوق بها، أي لمعظم شركات الخدمات المالية، تلك القدرة على القيام بذلك بثمن بخس وبقوة. في الواقع، هذا هو الطريق الذي تسلكه البنوك الكبيرة والمؤسسات المالية الأخرى. إنهم مهتمون أكثر بتطوير تقنية blockchain لتوفير التكاليف والتحكم في معاملات الإنترنت.
كما أشار كامينسكا عام 2015 وهو أحد منتقدي blockchain: «أولاً، لسنا مقتنعين بإمكانية فصل blockchain بنجاح عن قسيمة أو مكون دفع رمزي دون المساس بأمن النظام. ثانياً، لسنا مقتنعين بأن اقتصاديات blockchain تعمل على أي شيء باستثناء بعض حالات الاستخدام عالية الكثافة. ثالثاً، ستكون blockchain دائماً أغلى من الوسيط المركزي الواضح نظراً لأن العديد من الوكلاء يجب أن يقوموا بمهمة المعالجة بدلاً من واحد فقط، مما يجعلها خدمةَ مقاصّة متميزة- خاصة إذا تم فصلها عن قسيمة الأسهم- وليست خدمة أرخص».
يشير كل هذا إلى أنه سيتم دمج تقنية blockchain في حافز للحصول على قيمة لا حاجة إليها إذا تم تطبيقها على نطاق واسع. ستصبح العملات المشفرة جزءاً من التمويل المشفر، وليست وسيطاً لعالم جديد من المعاملات المجانية والمستقلة. على الأرجح، ستظل عملة البيتكوين وغيرها من العملات المشفرة في المحيط الصغير لطيف الأموال الرقمية، تماماً كما حصل مع لغة الإسبرانتو كلغة عالمية عالمية في مواجهة جبروت اللغات الإنجليزية والإسبانية والصينية.
لكن جنون العملات المشفرة قد يستمر لفترة أطول، جنباً إلى جنب مع أسواق الأسهم والسندات الدولية المتصاعدة على مستوى العالم، حيث يبحث رأس المال عن عوائد أعلى من خلال المضاربة المالية.
ماذا قد يكون مستقبل العملات المشفرة؟
العملات المشفرة ليست أقرب إلى القبول كوسيلة للتبادل. لا يتم دعم قيمة Bitcoin بأي ضمانات حكومية، بحكم التعريف. وهي مدعومة فقط بـ «الكود» يعني بالشيفرة، وبالإجماع الموجود بين «عمال المناجم» الرئيسيين أي الذين يقومون بما يسمى بالتعدين في هذه العملة، وبحامليها. كما هو الحال مع العملات الورقية، حيث وبخلاف سلعة مادية لها قيمة جوهرية كامنة في وقت العمل المبذول لإنتاجها، تعتمد العملة المشفرة على ثقة المستخدمين. وفي الواقع، تختلف الثقة في العملات المشفرة باختلاف سعرها بالنسبة للعملة الورقية، الدولار، حيث يتم قياس سعرها بالدولار أو بما يسمى «عملة مستقرة» مرتبطة بالدولار.
في الواقع، بينما انفجر جنون العملات المشفرة، رسخ الدولار الأمريكي نفسه بقوة أكبر من أي وقت مضى باعتباره عملة التسوية الأولى في العالم (67٪ من جميع المعاملات، يليه اليورو والين واليوان).
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1045