(بلاك روك العملاقة) نموذج من الإدارة الأمريكية (لإعادة الضبط الكبرى)!
ليلى نصر ليلى نصر

(بلاك روك العملاقة) نموذج من الإدارة الأمريكية (لإعادة الضبط الكبرى)!

يتعمم مصطلح (إعادة الضبط الكبرى) The Great Reset باعتباره أحد عناوين رأسمالية ما بعد عام 2020... مترافقاً مع مقولة: (لا يمكن العودة إلى الوضع الطبيعي) بعد الجائحة، والحاجة إلى تحولات كبرى في حوكمة الشركات لتكون أكثر (اجتماعية وبيئية)! حيث تُبدي النخب العالمية حماسة منقطعة النظير لمواجهة التدمير البيئي والتغير المناخي. ونسمع خطاب (إنقاذ الكوكب ومزيد من العدالة) كأولوية في السياسة الدولية القادمة، من منتدى دافوس إلى صندوق النقد الدولي وصولاً إلى أثرياء بارزين إعلامياً وسياسياً، مثل: بيل غيتس وجورج سورس والأمير تشارلز وغيرهم...

الولايات المتحدة التي تحيّدت مؤقتاً عن خطاب (البيئة والإنسانية) مع إدارة ترامب، عادت إليه مع الإدارة الحالية التي كان أوّل إجراء تقوم به هو العودة إلى اتفاقية المناخ الدولية، أو اتفاقية باريس. ولكن مع ذلك فإن الولايات المتحدة (بفجاجتها) التي لم يكن ترامب إلّا أبرز روادها، توضّح تماماً أيّ نوعٍ من (إدارة الأزمة والتحوّل) هذا الذي تسعى إليه النخب، وربما يساعد التغيّر في موقع ووظيفة شركة كبرى، مثل: بلاك روك بإعطاء مؤشرات حول ذلك.

من هي بلاك روك وما حجمها؟

بلاك روك هي واحدة من أكبر ثلاث شركات مالية قابضة في الولايات المتحدة، إلى جانب: فانغارد غروب، وستايت ستريت. والتي تدير مع بعضها أصولاً استثمارية قاربت قيمتها: 15 تريليون دولار في عام 2020. أي: ما يعادل ثلاثة أرباع الناتج الأمريكي، ومجمل ناتج كل دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة.
وهذا النوع من الشركات يعمل عملياً في المضاربة المالية وتداول الملكيات، فهذه الأصول الاستثمارية هي حصص في مجمل القطاعات الأمريكية وشركاتها الكبرى، وتسمح بمستوى عالٍ من التحكم والإدارة باتجاهات السوق والتسعير. ووفق تقرير أمريكي صادر عن مشروع (AELP) في 11-2020 والذي أعدّه أحد الموظفين السابقين في البنك الفيدرالي في سان فرانسيسكو: غراهام ستيل، فإن الشركات الثلاث هي مالك الحصة الأكبر في 88% من شركات مؤشرS&P 500 الأمريكي، وهو الذي يضم أكبر شركات الولايات المتحدة في مجمل قطاعات التصنيع والمال والخدمات. والثلاث تمتلك عموماً حصة 5% على الأقل في 97,5% من هذه الشركات. أي: إنها عملياً تلعب دوراً مفصلياً في التوجهات والقرارات المالية والاستثمارية لهذه الشركات الكبرى، بماذا تستثمر، وكيف، وأين؟ ويورد التقرير امتلاكها لحصص قياسية في شركات، مثل: آبل، وبنك جي بي مورغان شايس، وشركة فايزر الطبية وغيرها.
منذ ثلاث سنوات تقريباً كانت الشركات المالية الثلاث متقاربة من حيث حجم الأصول والثروة التي تديرها، ولكن خلال عام 2021 وفي منتصف شهر شباط أعلنت بلاك روك أنها تمتلك أصولاً تقارب 8,7 تريليونات دولار تحت إدارتها، وأصبحت في المقدمة بين الشركات الثلاث، وقد ترافق هذا التقدم مع الموقع المفصلي بعلاقتها بجهاز الحكم الأمريكي ودورها الحالي والقادم في إدارة (الأزمة والتحول).

سلطة إدارة حُزم الإنقاذ ووضع المعايير البيئية

في آذار 2020 أقر الكونغرس الأمريكي حُزمة الإنقاذ للاقتصاد والشركات والسكان من الأزمة، بمقدار قارب تريليوني دولار، حيث حصلت الشركات على قروض من الفيدرالي الأمريكي تحت مسمى الأدوات الخاصة للفيدرالي (spvs) التي يتم وفقها شراء حصص في السوق كآلية إنقاذ، وتبين أنّ إدارة توزيع هذه القروض تعود إلى بلاك روك التي بدأت عملياً بتوزيع أموال الفيدرالي الأمريكي. لتضع هي معايير الاختيار وحجم التمويل! أي: إن هذه الشركة المالية المستثمرة في السوق أصبحت تمتلك السلطة المؤسساتية لتوزيع أموال الفيدرالي. وهو شكل (الديمقراطية الأمريكية الفج) في إدارة حُزم الإنقاذ الأمريكية التي ازدادت مؤخراً بمقدار 3 تريليونات دولار للاستثمار في البنى التحتية الأمريكية.
يضاف إلى ذلك، أن (التوجه البيئي) الجديد كمعايير لإعادة هيكلة الشركات الأمريكية وربما العالمية، هو أيضاً بعهدة بلاك روك. وما يسمّى مؤشرات ESG (البيئة، المجتمع، وحوكمة الشركات) التي توضع أمريكياً لتتوافق مع مؤتمر باريس للمناخ. والتي تتوقع بيئة الأعمال أنها لن تكون مؤشرات تحفيزية، أو استرشادية، بل ستصبح إلزامية في وقت ما، ما يعني أنها ستحدد توجه الاستثمارات المالية لتخرج من الشركات غير المطابقة، وتتجه إلى الشركات المستدامة، التي ستحصل على تمويل أعلى مقابل حرمان شركات أخرى من هذا التمويل. الأمر الذي يدل على واحدة من أهم آليات إعادة الهيكلة في السوق العالمية وليس فقط في الولايات المتحدة. لنصل إلى شركات أكبر بآليات عمل جديدة، وليتم شلل تدريجي لقاعدة إنتاجية واسعة في الصناعات المكثفة، أو المعتمدة على الموارد البيئية، كما في الصناعات الاستخراجية.

البيئة كأداة للهيكلة وإعادة توزيع الثروة

في مقابلة لـ Ottmar Edenhofer الاقتصادي والمختص البيئي الألماني، والرئيس المشارك في هيئة الأمم المتحدة الحكومية الدولية لتغير المناخ، يشير منذ عام 2010 أن المسألة البيئية لم تعد بعد اليوم (بيئية) وإنما هي مسألة اقتصادية دولية، قد يتم على أساسها السعي إلى إعادة توزيع الثروة عبر العالم، لتتوجه التدفقات المالية نحو الشركات الكبرى التي تطابق المعايير. ويرى البعض أن هذا سيكون مسعىً لتغيير الأوزان الاقتصادية عالمياً، ويضعف الدول التي تمتلك نقطة قوّة في مجال احتياطيات النفط والغاز.
بدأت العملية في الولايات المتحدة، وقد وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن على منع إعطاء تراخيص لشركات استخراج النفط والغاز في الأراضي الفيدرالية الأمريكية، ويتم العمل على إقرار معايير ESG بالتعاون مع بلاك روك.
معايير ESG بدأت تأخذ مفعولها في قطاع المال، وحتى قبل أن تُقرّ رسمياً، وأكثر من 700 مؤسسة مالية كبرى عبر العالم بدأت تصدر سندات ESG، التي تنمو بسرعة قياسية من قيمة 15 مليار دولار في 2013 وصولاً إلى 520 مليار دولار في 2020، بزيادة 325% منذ 2018. لتحدد وجه حركة الأموال الاستثمارية الضخمة، وتنقلها من قطاعات ينبغي شلّ حركتها، إلى قطاعات أخرى أعلى تمركزاً وأكثر تمويلاً.
النخب العالمية بعد عام 2020 تحتاج إلى إدارة الأزمة والتحكم بالتغيرات، على الأقل ضمن نطاق هيمنتها المركّزة في الغرب، والسياسة البيئية وأموال البنوك المركزية من طباعة العملة هي أدوات حاسمة في هذه العملية... ويبدو أن شركة بلاك روك تقدم دليلاً على هذه الآلية، فهذه الشركة الاستثمارية التي تمتلك حصصاً كبرى في معظم أكبر 500 شركة أمريكية، تتحول إلى الإدارة المباشرة لحُزم الإنقاذ، ووضع المعايير البيئية للشركات التي على أساسها سيتم تجفيف التدفق المالي عن قطاعات، وضخ الأموال في قطاعات أخرى، ولشركات محددة. وإن كانت هذه العملية بدأت على المستوى الأمريكي، فإن انتقالها إلى المستوى العالمي سيمر عبر بنية الاتفاقات والمؤسسات الدولية، وعبر غطاء (خوف النخب على الكوكب والمجتمعات). سياسة لا يمكن أن تلامس جدياً المخاطر البيئية والإنسانية التي فعلاً تهددنا جميعاً، لأنها تعمّق الخطر الأهم الناجم عن المنظومة: وهو السعي نحو الربح الأقصى عبر تحطيم الأكبر للأصغر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1012