العراق... نموذج آخر من المنطقة.. أزمة مالية عاصفة وصراع خيارات
يقترب العراق من أزمة مالية غير مسبوقة... فبلاد أنهكها الاحتلال والنظام السياسي المحاصصي القائم على أساسه، وتراكم مشكلات كبرى تجعل أزمة النفط وأزمة كورونا في عام 2020 مفصلاً قد يدفع العراق مجدداً نحو التدهور، ليكون كغيره من بلدان منطقتنا في قلب المعركة الاقتصادية الاجتماعية التي ستعيد تشكيل البنى السياسية وخيارات النموذج، أو ستدفعه نحو عقد جديد من الفوضى.
يعتمد اقتصاد العراق على النفط، والنفط فقط... فهو يشكّل نسبة 90% من إيرادات الحكومة، والحكومة بدورها تشغّل ما يقارب 40% من القوى العاملة في العراق، بين كتلة موظفين كبرى، وبين الجهات الخاصة المتعاقدة مع الحكومة. وهذه الكتلة الكبيرة من التشغيل هي أمر واقع، ولكن تعتبر موضع تساؤل وتشكيك لدى العديد من المختصين العراقيين، إذ تعتبر إحدى بوابات الفساد كما في نموذج وظائف الدولة اللبنانية، حيث للزعامات حصص توظيف في جهاز الدولة.
مالية جهاز الدولة العراقي عموماً موضع تساؤل، حيث العراق أحد أبرز نماذج الفساد العالمي بعد احتلاله، فالجهاز الضخم ليس فاعلاً اقتصادياً بمعنى الإنتاج الحقيقي، وهو إلى حد بعيد جهاز يدير عقود النفط والمحاصصة بين القوى السياسية والشرائح المنتفعة منها. جهاز تديره بنية سياسية نشأت وتكونت في ظل الاحتلال، ولم تستطع بكل أموال هذا الجهاز الضخم أن تستعيد أساسيات البنية التحتية للعراق المدمّر، ولو حتى بالحدود الدنيا... فقد شاهدنا خلال موجات الحراك الاجتماعي الواسع في العراق خلال الأعوام الماضية كيف أن مياه الشرب النظيفة لا تصل إلى أهالي البصرة في صيف العراق الحار، وحيث يتمركز جزء هام من نفط البلد الذي لا يزال رغم الاحتلال ثالث أكبر مصدّر للنفط في العالم.
عجز 4.5 مليارات دولار شهرياً
يحتاج العراق شهرياً إلى 5 مليارات دولار لكتلة الرواتب والتعويضات التقاعدية، و2 مليار دولار أخرى لتغطية الخدمات الأساسيىة، وهذه الحاجات الشهرية أصبحت في عجز شهري يتراوح بين 3.5- 4.5 مليار دولار! وذلك بعد أزمة تراجع أسعار النفط، والأزمة الدولية المرتبطة بالوباء. وعلى مستوى سنوي أصبح العجز يقارب 50 مليار دولار... بينما كل احتياطيات البنك المركزي العراقي قاربت 53 مليار دولار وفق تصريحات علي علاوي وزير المالية في شهر 10-2020.
بدأت الأزمة منذ العام الماضي تتجلى بتقطعات في سداد الرواتب، ونقص الكاش لدى الحكومة، ومع نهايات الشهر العاشر من العام الماضي أقر البرلمان أن تقترض الحكومة 10 مليارات دولار لدفع الرواتب، وارتفع إجمالي دَين العراق إلى 80 مليار دولار، وأصبحت بالمقابل مخصصات مدفوعات الدَّين وفوائده في الموازنة تقارب 12 مليار دولار. هذه المؤشرات لمستوى تسارع الدَّين تتوعد بأن صيف 2021 سيشهد انخفاض الاحتياطيات إلى حدود خطيرة، وستشهد الحكومة العراقية صعوبات استثنائية.
والمسألة ليست في الرواتب فقط، رغم ما لها من أهمية، حيث يعتمد عليها في توظيف 40% من القوى العاملة... ومع تراجعها ستتراجع فرص التشغيل لبلد يفد إلى قواه العاملة سنوياً 700 ألف من الشباب! وأبعد من ذلك فإن العجز العراقي سيعني نقصاً في إمكانية دفع مستوردات الغذاء الأساسية، والعراق مستورد لمعظم حاجاته من الحبوب الأساسية، ولم يعد ينتج إلّا نسبة قليلة من حاجات طعام شعبه. أضف إلى ذلك أن بلد النفط والغاز لا ينتج الكهرباء بل يستوردها من إيران... وتشير بعض التقارير إلى تقليص استيراد الكهرباء والغاز الطبيعي مع عدم القدرة على السداد.
إن أزمة مالية حكومية وتراجع في الإيرادات الدولارية في العراق قد تعني تدهوراً سريعاً، فالنموذج ليس له دعامات حماية، وستخلق أزمة نقص الدولار: أزمة تشغيل، وأزمة غذاء، وتضخماً واسعاً جميعها ستضاف إلى كل الأزمات الاجتماعية والسياسية السابقة.
السير في طريق الصندوق
للغرب طبعاً نصائحه المعتادة في هذه الحالات، حيث دخل العراق في مفاوضات مع صندوق النقد واستشارات للخروج من الأزمة المالية... ونصائح المؤسسات الدولية تركز على الإصلاح المالي، وتتحدث عن تخفيض الإنفاق الحكومي ووظائف الحكومة، ورفع الضرائب وتخفيض قيمة العملة، كما تنقل نيويورك تايمز التي تقول: إن إجراءات كهذه قد تدفع الولايات المتحدة إلى تخصيص مليار دولار وقد تلحقها قوى غربية أخرى... فما الذي سيصنعه المليار دولار في الوضع العراقي، حيث العجز الشهري يقارب 4 مليارات؟!
وقد بدأ العراق بطبيعة الحال السير بالجوانب الأكثر إشكالية في البرنامج الإصلاحي الغربي، على سبيل المثال: يتم الحديث عن تمليك شركات كهرباء حكومية لجهات خاصة، وتمّ عملياً تخفيض قيمة الدنيار العراقي بنسبة 20% مع مطلع العام الحالي ومن المتوقع أن تكون هنالك جولة تخفيض أخرى... أي: إن القوى السياسية في العراق دفعت حكومتها نحو بيعها شركات للدولة كطريقة لتخفيض الإنفاق الحكومي وتحصيل إيرادات، ولجأت إلى الخطوة الخطيرة لتخفيض قيمة الدينار العراقي، والتي سيكون لها تأثير كبير على أسعار المواد الغذائية المستوردة.
الصين في العراق
وسط هذه الصورة الضبابية والمعتمة في العراق، فإن تغيرات الموازين الدولية، وما تفتحه من فرص تلوح أيضاً في العراق. فوسط الأزمة المالية العراقية تم الإعلان في شهر 12-2020 عن صيغة تعاقدية بين العراق وشركة نفط صينية هي شركة زين هوا لاستيراد النفط مقابل دفعة سنوية مسبقة بقيمة ملياري دولار. حيث سيورّد العراق 130 ألف برميل نفط يومياً إلى الصين مقابل القرض المذكور، وذلك بفوائد صفر وبسعر محدد للبرميل. والشركة الصينية تخاطر بهذه العملية باحتمالات عدم التوريد وتخاطر ضمن الوضع الأمني والسياسي العراقي المعقد. ولكن الشركة المذكورة هي شركة حكومية صينية، ولديها هوامش مخاطرة عالية، ولتبعيتها إلى شركة نورينكو دلالة على توجه سياسي واقتصادي، فالشركة الأخيرة هي شركة نفطية دفاعية في الصين تعمل مع العديد من دول (الشرق الأوسط) وتملك 4% من شركة أبو ظبي النفطية.
العقد المذكور قد لا يحقق نقلة كبرى للعراق، ولكنه يعطي دلالات عن الصراع والتوجهات في العراق كغيره من دول المنطقة... فالشركة ذاتها حصلت على عقد لحفر ثلاثة آبار نفطية في حقل شرق بغداد، ويحتوي على 8 مليارات برميل من النفط، واعتبر هذا نقلة نوعية. المبادرة الصينية الحكومية ليست الأولى، ففي أيلول 2019 أدت الزيارة العراقية الحكومية للصين إلى توقيع جملة اتفاقيات تضمنت قروضاً صينية لإعادة البنى التحتية للعراق بما يقارب 10 مليارات دولار، ليتم سدادها عبر توريد النفط العراقي بما يقارب 100 ألف برميل يومياً. ولكن هذه الإتفاقية رغم توقيعها لم تنتقل إلى الإطار التنفيذي مع التغيير الحكومي في العراق، أي: تمت عرقلتها.
توجد في العراق قوى غربية جدية تحاول إبطاء وزن الصين التي أصبحت تستورد أكثر من ربع صادرات العراق، ومساهمة الشركات الصينية في استثمار النفط واسعة (وتحتاج إلى تفصيل لاحق)... ولكن مع ذلك نجحت القوى الميالة للغرب مؤخراً في استبعاد شركة صينية من استثمار تأهيل ميناء الفاو، الذي قد يكون أحد أهم الموانئ في المنطقة، ورسا العقد على شركة كورية جنوبية، رغم أن تقديرات المختصين العراقيين والعديد من التقارير تشير إلى أن اختيار الشركة الكورية (مشبوه) فلديها عقود سابقة في العراق أخّرت تنفيذها، وخاصة أن الشركة الصينية تقدّم عرضاً أوسع ويتضمن 12 خدمة إضافية لتسليم الميناء كاملاً وجاهزاً للعمل، ومربوطاً بسكة حديد وفي فترة زمنية أقل من الفترة الواردة في العرض الكوري.
في العراق كغيره من دول منطقتنا تتحول الأزمات الاقتصادية الحادة إلى أزمة وجود، تعصف بالمجتمعات والأنظمة وبالدول ذاتها. فالغرب الذي يبحث عن طريق خروج طويل من المنطقة يعتمد المعركة الاقتصادية العنيفة أداة أساسية، وتساعده فيها أنظمة الحكم والفساد التي رسّخها وربطها به. وبالمقابل، تفتح المتغيرات الدولية فرصاً جديدة لا تزال قوى الغرب قادرة على تأخيرها، ولكن هذا التأخير تدفع ثمنه أجيال من شباب المنطقة، وتنفتح من خلاله (أبواب جهنم) على مستقبل الدول، بل والأنظمة ذاتها... فإمّا مزيد من الفوضى، أو تغيير البنى والنماذج الاقتصادية وطابع العلاقات الدولية لمنطقتنا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1003