(المركزي) يتجاهل سعر الدولار... فهل يستطيع غير ذلك؟!

(المركزي) يتجاهل سعر الدولار... فهل يستطيع غير ذلك؟!

يرتفع سعر الدولار في السوق السورية تدريجياً منذ الشهر السادس لعام 2020 دون الكثير من الجلبة، ودون تحركات درامية سريعة، كما حدث في مطلع 2020 وفي شهري آذار وحزيران منه... ووسط هذا الصعود الهادئ يعمّ الهدوء أيضاً أرجاء مصرف سورية المركزي، ولا يصدر أي تصريح أو إجراء!

ارتفع سعر الدولار في السوق الموازية السورية خلال الأشهر الستة الأخيرة بنسبة قاربت 32% كسبها الدولار وخسرتها الليرة تدريجياً. وخلال هذه المرحلة لم يبدر عن السلطات النقدية أي تجاوب لهذا الارتفاع، رغم أن المصرف يضع تثبيت سعر الصرف هدفاً أساسياً خلال الأزمة بحسب تقاريره الرسمية.

وإذا ما استثنينا (القرار) الذي أثار الكثير من النقد والسخرية حول تسعير بدل خدمة العلم، الذي ينبغي أن يدفعه المواطن للمصرف المركزي بسعر قريب إلى سعر السوق 2250 ليرة!، فإن المركزي أبقى سعره الرسمي الذي يدفعه للمواطنين لقاء الحوالات، عند حدود شهر حزيران: 1250 ليرة، وسعر السوق أعلى منه بمرة وثلث تقريباً! وهو ما أوقف تدفق الحوالات إلى خزينة المركزي بشكل شبه تام، ونقلها جميعها إلى السوق السوداء.

هل رفع السعر الرسمي يحلّ المشكلة؟!

البعض يتساءل فعلاً: ما الذي يمكن أن يفعله المصرف المركزي لمواجهة هذا الارتفاع؟ هل يرفع السعر الرسمي ليقارب سعر السوق؟ هذه هي العملية التي كانت تتم طوال سنوات الأزمة، حيث يلاحق سعر المركزي سعر السوداء... بينما يستمر هذا الأخير بالارتفاع مع زيادة الطلب على الدولار، وتراجع الطلب على الليرة.

إنّ رفع السعر اليوم قد يؤدي إلى عودة جزء على الأقل من الحوالات المتدفقة إلى سورية لتمر عبر المسارب الرسمية، ويصل جزء منها ليرفد خزينة القطع الأجنبي المركزية... ولكن هذا لم يعد مضموناً تماماً، لأن خسارة السوق السوداء لكتلة من الدولار لصالح المركزي سيدفعها إلى رفع سعر الدولار مجدداً لجذب الحوالات إليها. لذلك دون إجراءات شاملة ومعممة لن يكون هنالك أي حل جدي، لأن الدولار يتحكم بالأسعار، والسوق السوداء تملك الدولار، والخزينة العامة لا تملك عوامل حركة جدية إذا لم تواجه قوى مالية كبرى... لا يبدو أن هنالك نوايا جدية لمواجهتها لا في مجال حماية الليرة، ولا في غيرها من المجالات.

خلال عامي 2017-2018 مثلاً، عندما وصلت الحوالات في الخزينة العامة إلى قرابة 3 مليارات دولار سنوياً، وساهمت باستقرار سعر صرف الدولار، لم تكن الأمور وردية كثيراً، وإن كانت بطبيعة الحال أفضل مما هي عليه في عامي 2019-2020.

فالدولارات التي كنت تصل المركزي من الحوالات كانت تستخدم في تمويل مستوردات كبار تجار القطاع الخاص، الذين بدورهم كانوا يسعّرون موادهم بسعر دولار السوق، ويحصلون على دولار رخيص من الحكومة. وبالمقابل، كان العامل الحاسم في انخفاض الطلب على الدولار هو تدفقات النفط عبر الائتماني الإيراني دون أن يتم سدادها بالكامل وبشكل مباشر، ما ساهم في توقفها... وثانياً: هو مجمل تحسّن الظرف السياسي وتوقّف المعارك الذي أنعش الحركة الاقتصادية نسبياً.

كما ينبغي الإشارة إلى أن استقرار سعر الصرف في حينها ترافق مع استمرار تقييد نسبي لحركة الليرة في المصارف، وإيقاف الإقراض وتقييد متقطع للسحوبات.

تعقيدات أكبر وعجز أعمق

خلال العامين الماضيين تعددت التعقيدات والعوامل المؤثرة في الوضع الاقتصادي، وأصبحت السياسة النقدية- ضعيفة الجدوى سابقاً- أقل قدرة على التعامل مع المتغيرات المعقدة: من توقف الائتماني الإيراني، إلى ارتفاع وتيرة العقوبات، إلى أزمة لبنان، إلى تناقضات قوى المال الداخلية وأزماتها، إلى توسّع قطاعات الفوضى والتهريب، إلى التوقف الواسع في النشاط الصناعي وتراجع الحركة الاقتصادية، وكلها عوامل تزيد من كتلة الدولار في السوق السوداء، وترفع حوافز المضاربة على قيمة الليرة.

المركزي، لم يستطع أن يفعل الكثير، إذ عمد إلى تقليص تمويل المستوردات إلى حد إيقافها، وذهب إلى تقليص إصدار النقد مع تخفيض الإنفاق الحكومي واللجوء إلى آليات تمويل، مثل: سندات الخزينة وشهادات الإيداع، وبالمقابل، أعاد فتح باب الإقراض دون أن يتحرك بشكل فعّال نتيجة ظروف الاستثمار والتوقف والركود، وعدم القدرة على وضع سعر فائدة مجدٍ. أي: إنه لم يتحرك إلّا في مجال محاولة ضبط وتحكم حركة الليرة، بينما لم يعد يمتلك شيئاً من التحكم بحركة الدولار.

توجد اليوم في المصارف كتلة ودائع تقارب 6,9 آلاف مليار ليرة، إضافة إلى كتلة للموازنة الحكومية تقارب 8 آلاف مليار ليرة (جزء منها مودع في المصارف العامة)، ومع ذلك فإن تريليونات الليرات هذه التي يوجد في السوق ما يقاربها أو يزيد عنها، لا يمكن لها أن تدخل في عمليات إنتاجية فعّالة إلّا ما ندر... فحتى السياسة المالية والحكومة قد خفّضت نوايا إنفاقها الاستثماري لتصبح نسبة 17% من الموازنة، بينما كانت سابقاً تعلن عن 25%، وبكافة الحالات، فإن الاستثمار الفعلي لا يُذكر. أما الكتلة الموجودة في السوق، فيدور جزء كبير منها في دوائر المضاربة، لأن كل قوى السوق حتى التي تريد أن تعمل في النشاط الحقيقي والخدمي، مضطرة إلى حماية قيمة مواردها بالليرة عبر تحويلها إلى دولار، أو ذهب أو عبر تحميل الخسارة المحتملة في قيمة الليرة على أسعار السلع، لتصبح مسعّرة بسعر دولار السوق، بل أحياناً أعلى منه تحسباً للطوارئ!

من الطبيعي ألّا تصدر خطوات عن المركزي، لأن الخطوات المطلوبة كبرى وتفوق مجال السياسة النقدية! فعندما يكون المطلوب لحماية الليرة تغيير كل توجهات تخصيص الموارد لتتحول إلى إنتاج حقيقي، ويكون المطلوب ضبط كتلة الدولار في السوق السوداء وقوننتها... فإن هذا يعني: أن المطلوب مواجهة كبار مالكي الموارد واستثماراتهم في مجالات الربح الأعلى كالفوضى والمضاربة، ومواجهة مصالح أمراء الحرب والقوّة، حيث تتمركز حركة الدولار غير الشرعية. وعندما يكون المطلوب مواجهة العقوبات الغربية بشكل جدي، فإن القرار أيضاً ليس قرار المركزي، بل الخطوات المطلوبة تصبح سياسية ووطنية تهدف إلى إزاحة الدولار وربط حاجات مقاومة المجتمع السوري الأساسية بطرق غير تقليدية، مثل: استثمار احتياطي الذهب أو ما تبقى من العملات الأجنبية لفتح أرصدة بعملات أخرى، مثل: اليوان. حيث يمكن الوصول إلى اتفاقيات حكومية لتأمين سلة الغذاء والحاجات الأساسية بطرق ائتمانية وآليات مصرفية حصرية بين البلدين، للانتقال من التعامل الحالي مع العقوبات بوساطة (خفافيش الظل)، إلى مواجهة العقوبات بإجراءات نوعية وبالعلن، علّنا نستطيع جدياً الحديث عن مقاومة وصمود في حينها!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1001