ماذا لو انهار الدولار سريعاً؟! افتراضات واتجاهات...
للمرة الثالثة على التوالي يطلق الاقتصادي الأمريكي ستيفن روش خلال أقل من عام تصريحاته المدويّة حول اقتراب انهيار الدولار... وهذه المرّة يقول: إن المؤشرات تدل على اقتراب التوقيت ويتوقع نهاية 2021 كنقطة علّام، وهي تصريحات تصدر عن الاقتصادي المعروف بأنه (رجل وول ستريت والفيدرالي الأمريكي).
صرخة من قلب المنظومة
روش ليس (اقتصادياً نقدياً) أو مجرّد أكاديمي، بل هو من الأشخاص ذوي الدلالة، فهو الاقتصادي الرئيس السابق في بنك مورغان ستانلي، وموظف سابق في قسم التحليل في الفيدرالي الأمريكي، وهو الآن في عداد جامعة يال الأمريكية. وروش ليس الوحيد بل أتت الإشارات متتالية من مؤسسة روتشيلد للاستثمار، من المستثمر الأمريكي وورن بافيت، من بنك غولدمان ساكس وحتى من وكالة التصنيف فيتش وهؤلاء جميعاً أعلنوا توقعهم انخفاض الدولار والتوجه نحو الذهب.
إنّها (صرخة) من قلب المنظومة قد يكون لها تفسيران: إمّا دعوة إلى إدارة أزمة التراجع المحتوم للدولار والسير بسياسات مختلفة، أي صرخة تحذيرية! أو قد تكون جزءاً من إدارة الأزمة ومساهمة في التوقيت، لتعكس أن طرفاً في قلب المنظومة يعلن اقتراب الأزمة ويسرّعها، ويمكن أن نسميّها صرخة توعديّة!...
قد لا نمتلك إجابة دقيقة حول دلالتها، ولكن المحسوم حتى قبل تصريح روش بأن منظومة الدولار: مختلّة وهي في طريق التفكك، مع تعقّد الأزمة الاقتصادية التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي بمركزه الغربي المعتمد على الدور العالمي للدولار منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
الأزمة كانت متوقعة بين 2019-2021
توقّع الكثير من النخب والمؤسسات الاقتصادية العالمية انكشاف الأزمة، وتحديداً انفجار فقاعة المال والدَّين العالمي المتضخمة منذ عام 2008، وكان توقيت 2019-2020 متداولاً بكثرة... مع الحديث عن عدم اليقين وهشاشة الوضع الاقتصادي والسياسي والبيئي العالمي.
وهو ما حدث! فالأزمة انفجرت في قطاع النفط مطلع 2020، (لأسباب متراكبة سياسية واقتصادية)، ثم كانت أزمة الوباء العالمي، والركود الواسع الناجم عنها، والتي إن ظهرت كأزمة صحية إلّا أنه لا يمكن فصلها عن نمط الإنتاج العالمي، ومستوى الترابط في المنظومة. (فمثلاً: يربط البعض بين الوتيرة المتصاعدة لظهور الأوبئة وانتشارها وطبيعة الإنتاج الغذائي الكبير عالمياً، التي تولّد الأوبئة وتسرّع انتشارها ونقلها للبشر)..
إن الأحداث الوبائية والسياسية والكوارث البيئية التي يبحث العديدون عن تفسيرات أحادية لها، هي جزء من الأزمة الشاملة لمنظومة الإنتاج الرأسمالي العالمي. أمّا الأزمات المالية فهي تجلٍّ مباشر، وهي تعكس بالجوهر أزمة الدولار بصفته (المال العالمي).
أربع وظائف
للطلب العالمي على الدولار
روش يقول: إن الدولار كعملة الولايات المتحدة، كان يحافظ على قوتّه وسعره رغم اختلال المؤشرات المالية الأمريكية: نسبة عالية للدَّين قياساً بالناتج سيصل إلى 130%، وعجزاً كبيراً في موازنة الحكومة 20% من الناتج، وعجزاً كبيراً في الميزان التجاري... وهي مؤشرات كفيلة بالقول: إن العملة الأمريكية هشّة ومرشحة للتراجع. ولكنّ هذا لم يكن ينطبق على الدولار، أو حتى على عملات دولية أخرى، مثل: اليورو. وذلك نظراً للطلب العالمي على هذه العملات الذي يرفع من سعرها، هذا الطلب الناجم عن أربع وظائف أساسية للدولار في المنظومة العالمية:
أولاً: تشكيل الاحتياطيات الدولية (أي: طلب البنوك المركزية عبر العالم على الدولار كخزان احتياطي، وشكل من أشكال حفظ الثروة، إلى جانب العملات الدولية الأخرى والذهب). ثانياً: الطلب التجاري العالمي على الدولار باعتباره عملة التداول العالمية الأولى وتسعّر به السلع الأساسية عالمياً، مثل: النفط وغيره. ثالثاً: الطلب على الدولار باعتباره وسيلة تمويل وعملة الدَّين الأساسية عالمياً، فالمصدر الأكبر للديون العالمية هو البنك الفيدرالي الأمريكي وما يضخّه من دولارات إلى منظومة المصارف التجارية الكبرى عالمياً، وبُنى ومؤسسات التمويل الأخرى التي تموّل بالدولار ومشتقاته المالية... ورابعاً: الطلب الاستثماري على الدولار، حيث يعتبر ملاذاً آمناً من الاضطرابات والأزمات، وحافظاً لثروة المستثمرين الماليين دولياً، لأنّه مضمون بوزن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وما تمثله من قوّة!
إنّ هذه الروافع الأربعة للطلب على الدولار عالمياً تأتي بالعمق من وزن الولايات المتحدة الريادي خلال العقود الستة الماضية: اقتصادياً، وتجارياً، وتكنولوجياً، وعسكرياً، وسياسياً، ومؤسساتياً باعتبارها المتحكم ببنية المؤسسات الدولية. وبالمجمل، فإنّها ترتبط بأوجه الهيمنة الأمريكية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ورغم اختلال هذا الوزن اليوم في كل هذه الجوانب، ومنافسة قوى دولية أخرى في مقدمتها الصين... فإن موقع الدولار بقي صلباً نسبياً، وحصلت خروقات مالية صينية في فرض اليوان كعملة احتياطي وتبادل دولية منذ 2016، ولكن اليوان لا يزال يشكل 3% من التداول العالمي، وإن كان ينمو بسرعة.
ولكن بالعودة إلى روش، فإنّه يرى أن هذه الروافع والوزن العالمي للدولار، لم تعد مضمونة الفعالية، إذ يقول: (مرحلة الميزة الخارجية للدولار الأمريكي... تنتهي، لمدة 60 عاماً كان العالم يشتكي من هذا الموقع المميز للدولار، ولكن لا يفعل شيئاً، وهذه الأيام قد ولّت). الدور الخارجي للدولار يهتز وتحديداً مع عمق الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة وتراجع كلٍّ من: الاقتصاد الأمريكي، والاقتصاد العالمي، والطلب العالمي على الدولار، وارتفاع أوزان وبدائل الأطراف الدولية الأخرى.
الفقاعة التي تُغرق العالم بالدولار قد تكون قريبة من الانفجار، وهذه المرّة ستظهر القيمة الحقيقية للدولار، حيث يتوقع روش تراجع الدولار بسرعة بمقدار 35%، وأنّه على الاقتصاد الأمريكي الاستعداد لركود بنسبة 50%!
(جلطة قلبية)
في التداول العالمي!
إن بناء سيناريوهات لتراجع الدولار سريعاً وبمقدار يفوق الثلث... هو مسألة غاية في التعقيد، نظراً لحجم التأثير وتشعّب دور الدولار العالمي.
ولكن سياسياً، أو بأدوات التحليل المعتمدة على وظيفة الدولار باعتباره (المال العالمي) يمكن القول: إن تدهوراً سريعاً في سعر الدولار عالمياً سيؤدي إلى تعطّل و(جلطات قلبية) في التداول العالمي، وينعكس على تعطّل واسع في الإنتاج.
إنّ هذا سينعكس اضطراباً في أدوات التسعير والتمويل والسداد، أزمة في الدَّين العالمي وفرصة لإعادة هيكلته... والأهم، تضخماً عالمياً في أسعار السلع وتحديداً الأساسيات: الغذاء، والمعادن، والأراضي، والذهب، والطاقة وغيرها. كما سيقلل من قدرة الدول التي تعتمد الدولار احتياطيها الأساس على تلبية الحاجات الأساسية، وهو نسبة 60% من الاحتياطيات العالمية، كما سيعطل شبكة الإنتاج العالمي إلى حد بعيد... مع كل ما يستتبعه هذا من اضطرابات اقتصادية واجتماعية وسياسية دولية.
إن آثار تدهور الدولار قد تكون اندلاع أعمق أزمة للمنظومة الرأسمالية، ولن يكون التوقف الناجم عن الوباء إلا بمثابة (نزهة) قياساً بأثر التوقف الناجم عن اختلال أداة التداول العالمية الأساسية، (ولن يكون بالإمكان محاولة إطفاء هذه الأزمة باستخدام طباعة الدولار بكميات استثنائية كما جرى في أزمة 2008، وكما تفعل الولايات المتحدة في 2020 بضخها لـ 3 تريليونات دولار خلال أقل من ثمانية أشهر عبر آلية الإنقاذ التي تؤجل الأزمة وتضخّمها!)
يمكن القول: إن أزمة اقتصادية شاملة ستكون بمثابة عملية واسعة لكبح القوى المنتجة: تعطيلها عن العمل وتقليص قدرتها على تأمين الأساسيات، وإيقاف الكثير من عمليات التطوير، وستؤدي إلى هشاشة أنظمة الحكم والدول، وارتفاع درجة التوتر والعنف، وتفتح باب الصراع الاجتماعي واسعاً.
ربما يفسّر هذا ميل القوى الصاعدة التي تمتلك أوزاناً هامة: اقتصادياً وتكنولوجياً ومالياً، مثل: الصين، وعسكرياً ودبلوماسياً، مثل: الروس، ميلهم إلى السير البطيء في عملية استبدال الدولار، ومحاولتهم التحكم بمسار الأزمة وكبح الرعونة الأمريكية تدريجياً، وسيرهم في سياسة احتواء ودفاع وتلويح بالبدائل، مقابل العمل المتأني عليها... فالانهيار السريع هو خسارة للجميع تتطلب مستوى عالياً من القدرات المادية والقدرة على التحكم بحجم الخسائر، ومرونة عالية لإيجاد البدائل وترسيخها سريعاً.
كما لا ينبغي استبعاد فرضية أن أطرافاً في المنظومة الغربية ومركزها الأمريكي تسعى إلى التحكم بتوقيت أزمة من هذا النوع، لأن الجميع يعلم أن الدولار لن يبقى على العرش العالمي، وربما يريد طرف متشدد أن تأتي الأزمة بشكلها المدوي لأن هذا يساهم في عملية التدمير على المستوى العالمي، ويسمح باستخدام بقايا الوزن الأمريكي في مواجهتها. ربما يوجد طرف أمريكي يريد استباق الأزمة قبل اختمار منظومة البديل النقدي العالمي.
الأكثر قدرة على التحكم
ومواجهة الأزمة!
إنّ أكثر الدول قدرة على التحكم بأزمة من هذا النوع، ستكون تلك التي تمتلك قدرات بشرية وإنتاجية أكبر، إضافة إلى امتلاك المرونة لإدارة الصراعات الاجتماعية وإيجاد وضع أكثر استقراراً، ليس اقتصادياً فقط، بل سياسياً وأمنياً. قد تمتلك الولايات المتحدة بشراً وإنتاجاً ولكنها مثقلة (بقوى الرعونة) أي، القوى التي لا تستطيع أن تقبل بتوزيع الخسائر نظراً لهول هذه الخسائر وجسامتها، خسائر ستعادل على الأقل حجم ربح الولايات المتحدة التاريخي من هيمنتها السابقة وموقع الدولار العالمي... وهو ما يدفع نحو افتراض أن الإدارة الأمريكية ستكون أكثر ميلاً للعنف وتحديداً في مواجهة المجتمع الأمريكي.
إنّ تجربة الوباء أعطت نموذجاً مبسطاً وتجربة عن القدرة على التحكم بالأزمات الكبرى وإستراتيجياتها: فأثبتت الصين مثلاً أنها تمتلك مرونة تعبئة الموارد والقدرات الذاتية ليتجاوز مجتمعها الأزمة، وخرجت أكثر تماسكاً ووحدة... بينما أثبتت الولايات المتحدة أنها لا تستطيع أن تواجه ارتفاع احتياجات المجتمع إلا بمزيد من العنف والانقسام.
إننا نرى الآثار الاقتصادية المباشرة لهذه التجربة، على المستوى الاقتصادي بالعودة السريعة لنمو الاقتصاد الصيني، وعلى المستوى النقدي بارتفاع الطلب على اليوان عالمياً وتوسيع إصداره في الخارج وارتفاع تدفق المال العالمي إلى الصين كملاذ آمن. بينما نرى الآثار الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة في محاولة رفع وتيرة العنف وتعمّق الانقسام والحديث الصريح عن انهيار الدولار.
على المستوى الأعم، إن أزمة بحجم انهيار الدولار ستعني اهتزاز أنظمة الحكم العالمية بمجملها واختلال أوزانها السياسية، وتحديداً الأكثر طفيلية منها والأقل إنتاجاً وموارد، وهذا من جهة... أما من الجهة الأخرى ستجعل الشعوب أقل قدرة على الاحتمال وأكثر حاجة للبدائل. ستفتح الأزمة الشاملة معركة- رغم أنها قد تكون (دامية)- ولكن تزداد فيها فرصة استلام الشعوب لزمام إدارة الأزمات بمنطق آخر... يقوم على تلبية الحاجات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 986