سياسات باردة تخفي عنف (البقاء للأقوى)

سياسات باردة تخفي عنف (البقاء للأقوى)

استطاعت الحكومة أن تجمع ما يقارب 465 مليار ليرة من إصدار سندات الخزينة وشهادات الإيداع خلال الأشهر الثمانية من العام الحالي... وهي بمثابة دَين عام داخلي أقرضته المصارف العاملة العامة والخاصة وزبائنها للدولة، مقابل معدلات فائدة واستحقاقات بآجال زمنية بين 6 أشهر وسنتين...

هذا هو الحد المتاح للسياسات النقدية وللحكومة السورية لتقوم بعملية تعبئة الموارد من السوق وتوظيفها في الإنفاق العام! إذ تستدين الحكومة من المصارف العامة بالدرجة الأولى، وهذا أقصى المستطاع في ظرف طوارئ ويحتاج إغاثة مع تراكب أزمات صحية وغذائية واقتصادية لبلد مضى عليه 10 سنوات أزمة...
465 مليار ليرة تشكل نسبة 11,6% من الموازنة الحكومية المعلنة في عام 2020 والبالغة 4000 مليار ليرة، تمّ جمعها من السوق لتمويل الإنفاق العام. عبر إصدار لسندات الخزينة تستحق بعد سنتين، والباقي من شهادات الإيداع تستحق بعد 6 أشهر.
تعتبر هذه العملية تمويلاً للمال العام من السيولة المتكدسة في السوق، وهي بجزء منها سحب لهذه السيولة من التداول، وهو إجراء أفضل من لجوء الحكومة للاستدانة من المصرف المركزي، عبر إصدار النقد لأنه لا يحوي آثاراً تضخمية.
تقول الجهات الحكومية، إن مصارف عديدة قامت بالمساهمة والتمويل، وبالأغلب، فإن المصارف العامة هي من ديّنت الحكومة من الأموال العامة المودعة فيها. فالمصارف الخاصة وقوى السوق الأخرى لن تقدم على تجميد مبالغ بالليرة بمعدلات فائدة 7-6,5% ولآجال بين سنتين و6 أشهر، لأن الليرة قد تفقد قيمتها خلال هذه الفترة بما يزيد عن معدل الفائدة!
الإجراءات والتصريحات من الجهات المعنية بإدارة الوضع الاقتصادي في سورية تعيش في عالم مختلف، إنها تقوم (بإجراءات باردة) أو ما يمكن تسميتها إجراءات الحد الأدنى، وكأننا نعيش في ظروف طبيعية. فتطرح سندات اختيارية تساهم فيها المصارف العامة... كسياسة لتجميع المال وتخصيصه للإنفاق العام. بينما تراكب الأزمات يتطلب اتباع كل الطرق السياسية والاقتصادية لتعبئة الموارد والإسعاف.
المشكلة ليست في إصدار سندات الخزينة وشهادات الإيداع، بل المشكلة في غياب أي إجراء جدّي كما هو مطلوب، حيث تحتاج المالية العامة إلى كل إنفاق عام مجاني لزيادة قدراتها الصحية وإنفاقها وتأمين مستلزمات مواجهة وباء! وزيادة قدراتها على زيادة إنتاج الغذاء في بلد نصف سكانه لا يحصلون على الغذاء الكافي، وهم دون حد الجوع، وزيادة قدرات دعم القطاعات الإنتاجية المتهاوية، والتي قد تدفع مئات الآلاف للبطالة...
إن الفارق الهائل بين ما تحتاجه البلاد من خطة طوارئ، وبين أداء الحكومة أو بشكل أدق صلاحياتها والخطط الموضوعة لها... هذا الفارق يعبر عن الكثير، إنّه بالعمق يعكس مقولة (البقاء للأقوى) فالقادرون على التعبئة ووضع خطة طوارئ غير معنيين بالعصف الذي يُنهك ملايين الضعفاء!
إنّهم معنيون بإدارة أزمات النُّخب، وتوزيع الموارد فيما بينهم... وهو ما يعكسه ملف محاربة الفساد الاستعراضي، الذي صدرت عنه الكثير من قرارات الحجز الاحتياطي على أموال وأملاك النُّخب السورية التي لم يكن ممكناَ للقانون أن يطولها بسهولة! ولكن النتيجة كانت لا شيء بطبيعة الحال، إنّ الحملة لم ينتج عنها إلا حملة تهريب أموال واسعة للخارج... ولم تؤدي حتى إلى توفّر قدرة إنفاق عامة لتوزّع كمامات واقية على الكادر الطبي في معركته مع الوباء، ومع التخلف والإهمال وسرقة الإنفاق الصحي والمال العام...
(البقاء للأقوى) هي مقولة إدارة أزمة الطوارئ التي تعيشها البلاد، إنها سياسة اللا إدارة التي لا تستطيع أن تمسّ بأي ركن من أركان القوّة الكامنة في رجال المال والنفوذ، وتترك الضعفاء لمصيرهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
979