تكنولوجيا الصين تعمّق الانقسام الأمريكي
ليلى نصر ليلى نصر

تكنولوجيا الصين تعمّق الانقسام الأمريكي

الحرب التجارية الأمريكية لم تنتههِ وتحديداً مع الصين، بل يبدو أنها قد تدخل قريباً في موجة تصعيد جديدة ترتبط تحديداً بالتكنولوجيا الصينية... ولكن التصعيد والإجراءات المرتقبة تضع أحد أجنحة القوى الاقتصادية الأمريكية الكبرى في تناقض واضح وحاد مع الإدارة الأمريكية، حيث تهدد الشركات التكنولوجية الأمريكية بأن التصعيد قد ينهي الدور الريادي للولايات المتحدة في التكنولوجيا العالية.

ستناقش الإدارة الأمريكية في 28 شباط إجراءات تقييدية جديدة وشاملة ضد التكنولوجيا الصينة، قد توقف شراكات وعقوداً موقّعة بين شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى رائدة الصناعة الأمريكية، وبين السوق الصينية. الأمر الذي تعتبره شركات الذكاء الصناعي، البيوتكنولوجي، الاتصالات والمعلومات وغيرها من الصناعات إنذاراً يهدد بسحب الخبراء والأبحاث والعوائد من الولايات المتحدة الأمريكية وينهي الموقع التفضيلي للولايات المتحدة في هذا المجال في حال تم تقييد التعامل مع الصين سواء في شراء أو بيع المنتجات التكنولوجية.
يعتبر التوافق على أن الصين هي عدو للأمن القومي الأمريكي نقطة مشتركة بين جناحي الصراع السياسي في الولايات المتحدة، ولكن الإجراءات ضد التكنولوجيا الصينية تهزّ هذا الإجماع، وينقسم حتى البنتاغون الأمريكي على الموقف منها نظراً لارتباط النشاط العسكري التجاري للمجمع الصناعي العسكري، بنشاط الأبحاث والتكنولوجيا العالية.

وقف التعامل مع تكنولوجيا الصين وتصعيد الشركات

الإجراءات الشاملة المرتقبة تأتي في مقترح لوزارة التجارة الأمريكية، مبني على الإجراء التنفيذي الذي أخذه ترامب بحق شركة هواوي الصينية. والوزارة تعمم في مقترحها هذا الإجراء، وتطرح إعطاء الوزارة صلاحيات لحظر أو إيقاف المعاملات التي تنطوي على تقنية مرتبطة بـ (خصم أجنبي) دون تحديد، ما قد يشمل تقييد أية مشتريات تكنولوجية من أية دولة غير حليفة، ويمتد خارج تكنولوجيا الاتصالات إلى مجالات تكنولوجية أخرى. أضف إلى ذلك أنَّ المقترح يتوسع ليشمل قدرة الحكومة الأمريكية على تقييد عمليات الإنتاج عبر العالم، ومنع الشركات من استخدام المكوّنات التكنولوجية الأمريكية في البضائع المصنوعة في الخارج والتي قد تصل إلى هواوي أو غيرها من (الشركات العدوة).
شركات التكنولوجية الأمريكية تصعّد إلى حد بعيد، وتقول بأن هذه الإجراءات قد لا تترك لديها خيارات إلا توطين الأبحاث والأعمال الجديدة خارج الولايات المتحدة لضمان استمرار العلاقة مع الصين. على اعتبار أن الصين أكبر سوق استهلاك عالمي والأسرع نمواً، وهي مركز لعمليات الإنتاج العالمي لصناعة الإلكترونيات. ويشير المنتقدون إلى أنّ ما يجري قد ينقل هذه الصناعات خارج الولايات المتحدة كما حصل في صناعة الآليات في التسعينات، وصناعة الأقمار الصناعية التجارية في مطلع الألفية، إلّا أن الفارق هنا أن الانتقال سيجري للصناعات الأعلى في التكنولوجيا العالمية.
ويرصد الإعلام الأمريكي عمليات انتقال وضخ استثمارات جديدة في المجال البحثي خارج جامعات الولايات المتحدة، في كندا وفي (إسرائيل) وبريطانيا كَردٍ احترازي على الإجراءات الحكومية. ونقلت شركات مختصة ببرمجيات صناعة الرقائق الإلكترونية مثل مؤسسة RISC-V Foundation أعمالها من الولايات المتحدة إلى سويسرا.
(كل من يعتقد أن مخاوفنا مبالغ بها، عليه أن يتحدث إلى العمال في قطاع أشباه الموصلات، الذين يخسرون أعمالهم كنتيجة لخسارتنا للسوق الكبرى عالمياً، وتراجع استثماراتنا الواسعة التي تقود هذه الصناعة وريادة الولايات المتحدة فيها). هذا ما قاله جون نيوفر الرئيس والمدير التنفيذي لجميعة صناعة أشباه الموصلات الأمريكية. كما ردت شركة IBM الأمريكية على مقترح وزارة التجارة برسالة تعقيبية تدعو الوزارة إلى العودة إلى هذه الإجراءات والإعلان صراحة أنها تهدف إلى عزل الأعمال الأمريكية عن السوق العالمية وعن مزودي الخدمات. كذلك الأمر في الردود لجمعي ة الإنترنت الأمريكية التي تضم غوغل وفيسبوك والتي قالت إن الإجراءات تفتقر للضمانات الموضوعية، وجمعية الصور المتحركة التي تضم أعمال هوليوود أشارت إلى أن ما يجري سيُقيد أعمال السينما الأمريكية.
الوزارة الأمريكية بالمقابل ترد باقتضاب، بأن كل الآراء ستؤخذ بعين الاعتبار، وأن موازنةً ستجري بين مصالح الشركات وبين مقتضيات الأمن القومي الأمريكي.
لا ينبغي النظر إلى الصراع الدائر حول هذه المسألة على أنه مسألة أمن قومي مقابل مصالح الشركات كما يُساق في التصريحات والإعلام الأمريكي، بل يمكن القول إن العملية الجارية تُعيد ترتيب البيت الداخلي للاقتصاد الأمريكي على أساس الصراع بين أجنحة الاقتصاد والمال... ويرجِّح البعض أنَّ هذه الإجراءات ستُدخل قطاع التكنولوجيا في عملية تفاوض مع الإدارة الأمريكية وما تمثله، وأنها قد لا تجدي نفعاً إذا لم تنجح الولايات المتحدة بإلزام حلفائها في أوروبا تحديداً بتقييد التعامل مع التكنولوجيا الصينية، وهنالك أصوات في أوروبا ومن مؤتمر دافوس تحديداً متمثلة بجورج سوروس تدعو الأوروبيين للتجاوب مع الولايات المتحدة في هذا المجال رغم التناقض العميق بين سوروس وما يمثله والإدارة الأمريكية الحالية، حيث يدعو الملياردير النيوليبرالي إلى توحيد الجهود في الولايات المتحدة وأوروبا لدعم شركتي نوكيا وإريكسون لمواجهة هواوي وعزل التكنولوجية الصينية عن سوق ضفتي الأطلسي، وأيضاً بذرائع تتعلق بالأمن القومي والتجسس، بينما أطراف أوروبية أخرى لا تتجاوب مع الطرح المذكور، مثل الحكومة البريطانية رغم تحالفها الواضح مع الإدارة الأمريكية.

الصين تفصل قطاعها التكنولوجي عن معدّات الغرب

بالعمق، يبدو أن التقدم الصيني السريع في هذا المجال هو المحرك الأساس لهذا الميل الغربي، فالصين مع المساعدات الحكومية الكبرى لشركات التكنولوجيا ومع برنامج صنع في الصين 2025 تتقدم بقفزات استثنائية في مجالات التكنولوجيا العالية لتنافس على الرقم واحد عالمياً.
كما أنَّ الصين ترد سريعاً على إجراءات التقييد، ورغم أنها تستمر بفتح الباب للاستثمارات التكنولوجية الأمريكية إلَّا أنّ إزاحة التكنولوجية الأمريكية من عمليات الإنتاج في الشركات الصينية الكبرى قد بدأت، وتحديداً برمجيات شركة أوراكل التي تدخل في صناعات هواوي وغيرها. المؤشرات والتصريحات عديدة وعلنية في هذا المجال، إلّا أن الإعلام الأمريكي يستشهد بإعلان مجموعة CITIC Capital وهي مجموعة استثمارية استشارية مالية ضخمة في هونغ كونغ وتعمل في السوق الصينية، التي وضعت شعارها الاستثماري لهذا العام: البحث عن بدائل للتكنولوجيا الأمريكية في الصناعات التكنولوجية الصينية.
العلاقة بين قطاعي التكنولوجيا الرائدين الأمريكي والصيني قديمة وتعود إلى نشأة وتطور هذا القطاع، بينما يشير البعض إلى أنَّ عملية فصل تجري في السنوات القليلة الماضية. واحد من المؤشرات الهامة على هذا الارتباط هو حجم التعاقدات الاستثمارية المباشرة بين الشركات، والتي وصلت إلى أكثر من 5000 تعاقد وشراكة وحيازة بلغت قيمتها الاستثمارية 66 مليار دولار خلال عشرين عاماً. حيث تشتري شركات التكنولوجيا الصينية الشركات الصغرى الرائدة في الولايات المتحدة والعكس بالعكس، وتشارك الشركات الكبرى في استثمارات شركات الطرف الآخر. ولكن عملية الفصل بدأت من الجانب الصيني فثلاث شركات تكنولوجية صينية كبرى كانت الرائدة في مجال الاستثمار في الولايات المتحدة بدأت تقليص استثماراتها في أميركا منذ عام 2016، ومن ذروة لحوالي 107 عقود وقرابة 18,7 مليار دولار استثمار هبطت إلى 2,2 مليار دولار في 2018، وأقل من ذلك في 2019 كما تشير التقديرات بنسبة تراجع: 88% خلال عامين فقط، وكان هذا ضمن التوجيه العام للحكومة الصينية بتقليص الاستثمار الصيني في الخارج رداً على حرب العملات التي قلصت قيمة اليوان كثيراً بين 2014- 2016.
التقليص الأمريكي أتى لاحقاً، حيث تراجع الاستثمار الأمريكي المباشر والتحالفات مع الشركات التكنولوجية الصينية الصاعدة إلى 4 مليارات دولار في 2019 بالقياس إلى مستوى الذروة الذي وصله في 2018: 17,4 مليار دولار بتراجع حاد بنسبة 78% خلال عام واحد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
954
آخر تعديل على الإثنين, 24 شباط/فبراير 2020 13:17